الحمد لله ،
وسلام على عباده الذين اصطفى ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ما
لمع نور و اختفى ، و أشهد أن سيدنا محمد عبده و رسوله ، سيد الشرفا ، وحسبي الله
الملك القدوس و كفى.
أما بعــــــــــد:
فالقرآن الكريم دستور الحياة الإسلامية
كلها ، و المصدر الأول للهداية فى توجيه هذه الأمة إلى حياة أساسها العدل وحب
الخير وفعله ، وكما قال ابن مسعود رضى الله عنه (ت32ه): "إن هذا القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبة الله مااستطعتم ،
وهو النور النير ، و الشفاء النافع ، و العصمة لمن تمسك به ، و النجاة لمن تبعه ،
لا يعوج فيقوم ، و لا يزيغ فيستعتب ولا تنقضي عجائبه"
.
وبالهدى
القرآني بنى المسلمون حضارتهم الشامخة ، التي امتد نفعها إلى البشرية قاطبة ، وبه
تجسد كيانهم بين الأمم ؛ فهو سداد حياتهم ، وشهود حضارتهم ، وقوة شوكتهم ، و إليه
مفزعهم في الملمات كلها . ومن المعلوم أن أولى ما صرفت من نفائس الأيام ، وأعلى ما
خص بمزيد الاهتمام: الاشتغال بالعلوم الشرعية المتلقاة عن خير البرية ، و لا يرتاب
عاقل في أن مدارها على كتاب الله المقتفى و سنة رسوله المصطفى صلى
الله عليه و سلم ،
و أن باقي العلوم إما آلات لفهمها وهى الضالة المطلوبة ، أو أجنبية عنها وهى
الضارة المغلوبة كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله.
ولما
كان القرآن الكريم أشرف العلوم ، كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم لأن شرف العلم
بشرف العلوم.
وعليه:
فإن العلم بكتاب الله عز وجل ، و العمل في خدمته من أرفع الأعمال ، وإن الله عز وجل
لا يمنح هذا الفضل إلا من أراده لذلك كما قال مجاهد رحمة الله عليه: "أحب
الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل" ؛ لما عليه مآل عالمه من الإيمان ، و اليقين
بموعود الله تعالى ، ومايتذوقه من مواطنة الجنات ، وهو يتفيأ ظلال آيات كتاب الله
الوارفات ، ولما فيه من الالتحاق بزمرة سيد الأنام و منهجه و سلوكه صلى
الله عليه و سلم.
ولما تقدم وغيره
جاءت صفحات هذا الكتاب مشرقة بشعع تظهر فهم السابقين في الأمة رحمهم الله تعالى
للقرآن الكريم ، وتعاملهم معه ومع اهله ، وكيف حولوا الفهم و التعامل إلى منظومة
متكاملة في العلم و الأخلاق و العمل ، وشملت هذه الصفحات إشراقات مهمة في بابها ،
ونافعة لمن وعاها ، و تدبر آثارها ، وأحسن الإفادة منها ، ولاسيما مع القرآن
الكريم ، وما يلحق به من المعارف ، و حث السلف على تعلم القرآن الكريم ، وإكرامهم
لأهله ، وإفاضتهم بجملة من الفوائد ، و التجارب التى وقفوا عليها أثناء العناية و
الرعاية و العيش في ظلال كتاب الله تعالى.
والذي ينفعنا في
مثل هذه الصفحات هو تذكير انفسنا والأمة بعظيم المسؤولية تجاه القرآن الكريم ،
ومحاولة بعث الهمة في أجيال الأمة المتلاحقة المتجددة التى هى بأمس الحاجة في
صفحات آبائها وصنائعهم الخالدة ، وإلى كل عبارة و إشارة ترشدهم إلى خيرى الدنيا و
الآخرة ، و تبعثهم على حث الخطى بيقين و قناعة و ثبات ، و تنطلق بهم بلا ريب في
طريق الدعوة إلى الله تعالى ودينه الحق ، وتصبرهم على مشاق نشره ، والدفاع عنه وعن
رموزه ومقدساته ، ولتمضي الأمة اليوم في تقديم كل غال ونفيس في سبيل ذلك ، ولتقف
على مناهج السابقين فى التعامل مع القرآن العظيم ، وتطلع على نتاج فهمهم لآياته
الكريمة ، و تتعرف على الكيفية التى استطاعوا بها ومن خلالها الوصول إلى ما وصلوا
إليه ؛ من الصدق فى عهد الله ورسوله ، والمصالحة و الصلاح و الإصلاح في ضوء هدى
القرىن الكريم قراءة ، وفهما ، وتفهيما ، وعملا بالأحكام ، وأثرا فى الأرواح و
القلوب و الأجساد ، و الفرد و المجتمع ، و البناء و الحضارة.
والأمل أن تكون
هذه الصفحات مساهمة نافعة في سلسلة ما كتب فى هذا الموضوع ، وعسى أن تسهم فى إحياء
الجذوة ، والتعريف بمنهج الأولين رحمة الله عليهم ، وكيف كانت مراحلهم السابقة
مراحل حية قرآنية ، و تذوق وجدانى لمعانى القرآن الكريم ، وجمال بديعى فى التعامل الحسى
والمعنوى معه ، وأنتنفع أشعتها الجيل فهما ، وتربية ، ومنهجا ، وينتفع من خلالها
فى التعرف على بعض آثارهم و لطائفهم مع القرآن الكريم ، و لتحفظ و تذكر بمكانة السابقين
الأولين من أهل القرآن ، وكيف كان تعامل قادة الأمة وأعيانها مع القرآن و أهله ،
وكيف كان أثر القرآن فيهم وفى سلوكهم ؛ لنكون معا فى طريق معرفة الله تعالى ، و
الوصول إلى مرضاته جل جلاله.
ولا شك أن من
غايات تحرير هذه الصفحات تعريف الأمة و أجيالها بالفهم الوسطى المعتدل للدين من
خلال تزكية الروح ، وتنقية البدن ، و الجمع بين العلم و العمل ، و السعى في تحقيق
التوازن بين عيش الدنيا وطلب عيش الآخرة لاسيما والأمة اليوم تعيش مرحلة من مراحل
الجفاف الروحى ، وتعانى من تفشى ظاهرة ضعف الارتباط الإيماني بين أبنائها ، وداخل
منظومتها ، والذى تعكس سلبا على سلوكها الحياتى.
وفى سلاف مداد
هذا التقديم: أبتهل إلى الله تعالى أن يحفظ قلوبنا و أرواحنا وأبداننا و جوارحنا ،
وأن يمتعنا بها ، ويجعلها الوارث منا . وأن يلهمنا الصواب و السداد فى أمورنا
كلها. ويكتب لنا الإخلاص و القبول. وأن يبعثنا على تجديد التوكل عليه سبحانه تعالى
فى جميع أمورنا ، و نبرأ فيها إليه من حولنا و قوتنا ، و نسأله أن يعيننا عليها ،
و على كل خير ، ويوفقنا لصالح الأعمال ، و يتفضل علينا بقبولها ، و يجعلنا ممن سمت
أخلاقهم فكانت تنسب للقرىن وأهله وخاصته ، وممن ظهر أثره فيهم و فى مجتمعاتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق