الاثنين، 22 يونيو 2015

النداء الرابع: في حرمة السخرية بالمؤمن وحرمة التنابز بالألقاب



الآية (11) من سورة الحجرات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
الشرح:
اعلم أيها القارئ الكريم والمستمع المستفيد أن في هذا النداء والثلاثة من قبله، والأتي بعده؛ هذه النداءات الخمسة من سورة الحجرات المباركة كلها في تربية المؤمنين وتهذيب أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، والسمو بآدابهم، وهم لذلك أهل بإيمانهم بالله ولقائه، والقرآن وأحكامه، والرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ، وهديه وسنته؛ لذا يتعين على المؤمنين قراءة هذه النداءات بعناية والتدبر فيها وفهم معانيها، والعمل بها رجاء كمالهم وسعادتهم، حقق الله تعالى لنا ذلك ولهم آمين.
والآن مع شرح هذا النداء الرابع من تلك النداءات.
قوله تعالى: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} أي لا يزدر أناسا منكم أيها المؤمنون إناسا آخرين منكم أيها المؤمنون ويحتقرونهم؛ فإن ذلك محرم عليكم مغضب للرب تعالى عليكم، وكيف ترضون بغضب ربكم وهو وليكم وانتم أولياؤه بإيمانكم وتقواكم. وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} أي عند الله تعالى، والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس، فلذا من القبح والسوء سخرية مؤمن بمؤمن بازدرائه واحتقاره وهو لا يدرى قد يكون من ازدراه وسخر منه خيرا عند الله وأحب إلى الله منه، ألا فلنذكر هذا فإنه في غاية الأهمية حتى لا يرانا الله جل جلاله يسخر بعضنا من بعض ونحن أولياؤه المؤمنون المتقون له.
وقوله تعالى: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ} أي ولا يحل لمؤمنة من نساء المؤمنين أن تزدري مؤمنة أخرى عسى أن تكون خيرا منها عند الله. وفى قوله {عَسَى} إشارة أن من ازدرى به من مؤمن أو مؤمنة هو خير عند الله تعالى ممن ازدراه وسخر منه وكما حرم الله تعالى السخرية بين المؤمنين والمؤمنات لما يفضى إليه من العداوات والمشاحنات والبغضاء وقد يؤول الأمر إلى التقاتل وسفك الدماء، وكيف يرضى المؤمن والمؤمنة بعداوة أخيه وبغضه وسفك دمه والعياذ بالله. حرم كذلك اللمز والتنابز بالألقاب، إذ قال تعالى في هذا النداء: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} ، ومعنى اللمز: العيب أي لا تعيبوا بعضكم بعضا فإنكم كفرد واحد. فلا يحل لمؤمن أن يعيب أخاه المؤمن؛ لأن من عاب أخاه المؤمن كأنما عاب نفسه. كما أن المعاب قد يرد العيب بعيب من عابه، وهو معنى {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} . ومن آثار اللمز وهو العيب ما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه حيث قال: " البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا ". وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} أي لا يحل لمؤمن أن يلقب أخاه المؤمن بلقب يكرهه فإن ذلك يفضى إلى العداوة والبغضاء وحتى المقاتلة. وقوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} أي قبح أشد القبح أن يلقب المسلم بلقب الفسق بعد أن أصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه. لذا فلا يحل لمؤمن أن يقول لأخيه المؤمن يا فاسق أو يا كافر أو يا فاجر أو يا عاهر أو يا فاسد؛ إذ بئس الاسم اسم الفسوق كما أن الملقب للمؤمن بالألقاب السوء يعد فاسقا. وبئس الاسم له أن يكون فاسقا بعد إيمانه بالله ولقائه والرسول صلى الله عليه و سلم وما جاء به من الحق والعدل والهداية والنور. وقوله تعالى في نهاية هذا النداء: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي ومن لم يتب من جريمة احتقار المؤمنين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب السوء التي يكرهونها. فأولئك هم الظالمون. المتعرضون لغضب الله تعالى وعقابه والعياذ بالله من غضب الله وعقابه.
ومن الألقاب السيئة التي يجب أن يتحاشاها المؤمن فلا يلقب بها أخاه المؤمن: نحو أنف الناقة، وقرقور، وبطة وكل لقب مكروه وهو ما أشعر بخسة. أما ما لم يشعر بخسة فلا بأس به كحاتم في كرمه وعنترة في بطولته، ومالك في فقهه، وأحمد في صبره وصدقه. فلا بأس بذلك.
ولنذكر دائما أن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا فكيف يصح إذا أن يلمز أخاه ويتنابز معه أو يلقبه بلقب سوء وهذه مؤدية إلى العدوان والبغضاء ألا فلنلزم أنفسنا قول الحق والصدق مع إخواننا المؤمنين.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

سبب النزول:
نزول الآية (11) :
لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ: قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين تقدم ذكرهم في بيان سبب نزول الآية الأولى من هذه السورة، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمّار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وقال مجاهد: هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد: لا يسخر من ستر اللَّه عليه ذنوبه ممن كشفه اللَّه، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة.
وقيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس عيّره رجل بأم كانت له في الجاهلية، فنكس الرجل استحياء، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية.
وقيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا: ابن فرعون هذه الأمة، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فنزلت.

والخلاصة: لا مانع من تعدد وقائع النزول، فقد يكون كل ما ذكر سببا لنزول الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

نزول الآية (11) أيضا:
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ:
قال ابن عباس: إن صفيّة بنت حييّ بن أخطب أتت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقالت: يا رسول اللَّه، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي:
يا يهودية بنت يهوديّين! فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل اللَّه هذه الآية.
وقيل: نزلت في نساء النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم عيّرن أم سلمة بالقصر.

نزول الآية (11) كذلك:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ: أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قال الترمذي: حسن.
وأخرج الحاكم وغيره من حديث أبي جبيرة أيضا قال: كانت الألقاب في الجاهلية، فدعا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم رجلا منهم بلقبه، فقيل له: يا رسول اللَّه، إنه يكرهه، فأنزل اللَّه: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ولفظ أحمد عنه قال: فينا نزلت في بني سلمة: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول اللَّه، إنه يغضب من هذا، فنزلت «1» .

المناسبة:
بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب. ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد على أنباء الفاسقين، ثم نهى عن الأخلاق المرذولة التي ينشأ عنها النزاع، ثم أعلن وحدة الإنسانية في الأصل والمنشأ، كل ذلك من أجل الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، وجعلها مثالا يحتذي في التعامل مع الأمم والشعوب الأخرى، لنشر الإسلام وإعلاء كلمة اللَّه في كل مكان.

التفسير والبيان:
هذه أخلاق الإسلام وآدابه العالية أدّب اللَّه تعالى بها عباده المؤمنين وهي:
1- النهي عن السخرية بالناس، وهو احتقارهم وازدراؤهم والاستهزاء بهم:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ، عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي يا أيها المؤمنون بالله ورسوله لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المسخور بهم عند اللَّه خيرا من الساخرين بهم، أو قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند اللَّه تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، فهذا حرام قطعا، ذكر فيه علة التحريم أو النهي، كما قال بعضهم:
لا تهين الفقير علّك أن ... تركع يوما، والدهر قد رفعه
فقوله: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي.
وقال صلّى اللَّه عليه وسلّم- فيما رواه الحاكم وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة- «ربّ أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على اللَّه لأبرّه»
ورواه أحمد ومسلم بلفظ: «رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على اللَّه لأبرّه» .
وبالرغم من أن النساء يدخلن عادة في الخطاب التشريعي مع الرجال، فقد أفردهن بالنهي هنا دفعا لتوهم عدم شمول النهي لهن، وأكد معنى النهي للنساء أيضا، وذلك بالأسلوب نفسه، فنص على نهي الرجال، وعطف بنهي النساء، بصيغة الجمع، لأن أغلب السخرية تكون في مجامع الناس، فقال: ولا يسخر نساء من نساء، فلعل المسخور منهن يكنّ خيرا من الساخرات.
ولا يقتصر النهي على جماعة الرجال والنساء، وإنما يشمل الأفراد، لأن علة النهي عامة، فتفيد عموم الحكم لعموم العلة.
أخرج مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
فالتميز إنما يكون بإخلاص الضمير، ونقاء القلب، وإخلاص الأعمال لله عز وجل، لا بالمظاهر والثروات، ولا بالألوان والصور، ولا بالأعراق والأجناس.

2- النهي عن الهمز واللمز، أي التعييب بقول أو إشارة خفية:
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا تلمزوا الناس، ولا يطعن بعضكم على بعض، ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة. وقد جعل اللَّه لمز بعض المؤمنين لمزا للنفس، لأنهم كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن أخاه، فكأنما عاب نفسه، وهذا مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء 4/ 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا.
أخرج أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «المؤمنون كرجل واحد، إن اشتكى رأسه اشتكى كله، وإن اشتكى عينه اشتكى كله» .
والهماز اللماز مذموم ملعون، كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة 104/ 1] . والهمز يكون بالفعل، واللمز يكون بالقول، وقد عاب اللَّه من اتصف بذلك في قوله: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم 68/ 11] أي: يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا بهم، ويمشي بينهم بالنميمة وهي اللمز بالمقال «1» .
والفرق بين السخرية واللمز: أن السخرية احتقار الشخص مطلقا، على وجه مضحك بحضرته، واللمز: التنبيه على معايبه، سواء أكان على شيء مضحك أم غيره، وسواء أكان بحضرته أم لا، وعلى هذا يكون اللمز أعم من السخرية، ويكون من عطف العام على الخاص، لإفادة الشمول.

3- التنابز بالألقاب أي التداعي بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها:
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يلقّب بعضكم بعضا لقب سوء يغيظه، كأن يقول المسلم لأخيه المسلم: يا فاسق، يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهودي أو يا نصراني، أو يقول لأي إنسان: يا كلب، يا حمار، يا خنزير، ويعزر المرء القائل ذلك بعقوبة تعزيرية. وقد نص العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره، سواء أكان صفة له أم لأبيه أم لأمه، أم لكل من ينتسب إليه. والتنابز يقتضي المشاركة بين الاثنين، وعبر بذلك لأن كل واحد سرعان ما يقابل الآخر بلقب ما، فالنبز يفضي في الحال إلى التنابز، بعكس اللمز يكون غالبا من جانب، ويحتاج للبحث عن عيب ما يرد به.
ويستثني من ذلك: أن يشتهر بلقب لا يسوؤه، فيجوز إطلاقه عليه، كالأعمش والأعرج من رواة الحديث. أما الألقاب المحمودة فلا تحرم ولا تكره كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعلي:
أبو تراب  ، ولخالد: سيف اللَّه، ولعمرو بن العاص: داهية الإسلام.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي ساء الوصف أن يسمى الرجل فاسقا أو كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، أو أن يذكر بالفسوق بعد الدخول في الإيمان. والفسوق: هو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يفعلون بعد ما دخلوا في الإسلام وعقلوه. والمراد: ذم اجتماع صفة الفسوق بسبب التنابز بالألقاب مع الإيمان، وذلك تغليظ وتنفير شديد، حيث جعل التنابز فسقا، وهو تعليل للنهي السابق.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي ومن لم يتب عما نهى اللَّه عنه من الأمور الثلاثة (السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين، بل هم لا غيرهم الظالمون أنفسهم، بسبب العصيان بعد الطاعة، وتعريض النفس للعذاب.
وسبب وصف العصاة بالظلم: أن الإصرار على المنهي كفر، إذ جعل المنهي كالمأمور، فوضع الشيء في غير موضعه.

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
1- حرّم اللَّه تعالى بدلالة النهي في الآية الأولى ثلاثة أشياء: هي السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، ومن فعل ما نهى اللَّه عنه منها فذلك فسوق، وهو لا يجوز، وهو من الظالمين أنفسهم بتعريضها بسبب ظلمه غيره إلى العذاب والعقاب إن لم يتب. والعلة واضحة وهي احتمال أن يكون المسخور منه والملموز والملقّب خيرا ممن عابه.
واستثني من التنابز بالألقاب المكروهة من غلب عليه اللقب في الاستعمال والشهرة، فلم يعد يعرف إلا بها، كالأعرج والأحدب والأعمش.
أما الألقاب الحسنة كالصدّيق لأبي بكر، والفاروق لعمر، وذي النورين لعثمان، وتلقيب خزيمة بذي الشهادتين، وأبي هريرة بذي الشمالين، والخرباق بن عمرو بذي اليدين، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، فذلك جائز مقبول مألوف بين العرب والعجم. لهذا كانت التسمية بالأسماء الحسنة مطلوبة.
ذكر الزمخشري: روي عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من حق المؤمن على المؤمن أن يسمّيه بأحب أسمائه إليه. وكانت التكنية من السنة والأدب الحسن»
قال عمر رضي اللَّه عنه: «أشيعوا الكنى فإنها منبّهة، وقد لقّب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد اللَّه، وخالد بسيف اللَّه، وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها- من العرب والعجم- تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير» .

نهي الإسلام عن السخرية بين المجتمعات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] .
أيها الإخوة! في هذه الآية الكريمة نداء للمؤمنين بأحب الأشياء إليهم، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونََ} [الحجرات:11] .
في هذه المقدمة من هذه الآية الكريمة ينادي المولى سبحانه عباده المؤمنين الذين التزموا بلوازم الإيمان، وهو: التصديق والعمل بكل ما جاء عن الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك: هذا التعليم القرآني الكريم.

الإعجاز القرآني في قوله تعالى: (لا يسخر قوم من قوم)
نلحظ في هذه الآية الإعجاز القرآني اللفظي والتنبيهات اللطيفة في قوله: (لا يَسْخَرْ قَومٌ) ، المفروض أن الذي سيسخر هو فرد واحد، ولكن الله سبحانه أسند السخرية المنهي عنها بقوم، والقوم هم الجماعة، و (قوم) لفظ خاص بجماعة الرجال، وقالوا: إن مادة قوم والقيام والقوامة ممثلة في الرجال؛ لأنهم هم الذين يقومون بالواجبات، كما قال الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ؛ فوصف الرجال بالقوامة؛ ولذا كان لفظ القوم خاصاً بالرجال فقط، ولذا عطف عليه القسيم الثاني وهم النساء، فقال: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) فكون الإسناد هنا لجماعة أو لقوم وهم عدد، مع أن العادة جارية بأن السخرية لا تنشأ ولا توجد إلا من فرد واحد؛ فلماذا جاء اللفظ بالقوم -وهم الجماعة- نيابة على الواحد؟ أشرنا سابقاً بأن آيات القرآن يرتبط بعضها ببعض، ولذا لو رجعنا قليلاً لوجدنا قوله: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ، فهنا طائفة متقاتلة مع طائفة أخرى، والطائفة هي الجماعة، والجماعة هي القوم، ولما انتهى القتال وجاء الإصلاح وتدخل المؤمنون قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ َ} [الحجرات:10] ، ثم جاء تصفية ما عساه أن يكون من بقايا القتال بين الطائفتين، فقد تكون طائفة أقوى من الأخرى فتفخر عليها وتسخر من الطرف الثاني، فجاء التعبير بالقوم بناء على أنه تقدم عندنا طائفتان.



اشتراك الراضي عن الفعل في الأثم
لو أن شخصاً من إحدى الطائفتين سخر بالطائفة الثانية؛ فإن إسناد السخرية يكون للطائفة التي منها الشخص الذي سخر، ويكون الإسناد للمجموع لا للفرد فقط؛ لأن الواحد يتكلم باسم جماعته، ومن هنا لو أن البعض لم يسخر ولم يرض لكنه مشارك بالسكوت كما قيل: وسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك الآكل الذي سمع ما ذم إنساناً لكنه سمع ورضي وتلذذ بذلك، كما قيل: لم آمر بها ولم تسؤني؛ فهو مشارك للذي سب، أو ذم غيره، وعليه فهو مشترك في الإثم، وهكذا هنا الجماعة الواحدة؛ فالذي يتكلم منهم ويسخر من الطائفة الثانية كأنه تكلم باسم الجميع، والجميع يتحمل الإثم؛ لأنه سكت ورضي.
وهكذا أي إنسان ذكر إنساناً بسوء وعنده من إخوانه من لم يرد عليه ولم يمنعه؛ فمن رضي بذلك فهو مشترك في الإثم معه بسكوته عنه وعدم نهيه عن فعله، ولذا جاء في بني إسرائيل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] ، ويقول علماء الأصول: الترك فعل في صحيح المذهب، فإذا رأى إنسان منكراً وهو يستطيع أن ينكره وترك النهي فهو كالذي فعله، ولو أن إنساناً وجد آخر يسبح في الماء وأوشك على الغرق، ويستطيع أن ينقذه دون مضرة عليه؛ فتركه حتى غرق فهو مشارك في مسئولية غرقه، ويقولون أيضاً: لو أن إنساناً في فلاة ووجد ظمآناً يكاد أن يهلك من العطش، وعنده فضل ماء يزيد على حاجته وتركه ولم يسقه فمات فهو مسئول عنه.
وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: (لو أن إنساناً مات جوعاً في حي من الأحياء لألزمتهم ديته لأنهم تركوا إطعامه) ، هم لم يقتلوه ولكنهم أمسكوا فضل طعامهم ومائهم؛ فبإمساكهم ما به حياة إنسان يكونوا قد فعلوا ما يوجب الموت بالفعل، وهنا إشارة لطيفة في التعبير بلفظ بدل من لفظ، كان ممكن أن يقول: لا يسخر إنسان من إنسان، مسلم من مسلم، مؤمن من مؤمن، وهي تؤدي المعنى، ولكن يأتي بلفظ: (قوم) ، والحاصل: أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، إذا الواحد الذي أنشأ السخرية يمثل القوم، والقوم موافقون وراضون وساكتون، أما من ينكر ذلك فقد خرج منهم.

جهات الخيرية الموجودة في المسخور منه
(لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا) أي: المسخور منه خير من هؤلاء الذين سخروا، (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) .
وكما يقولون: السخرية لا تكون إلا في جمع من الناس؛ لأنه لا يسخر من إنسان بينه وبين نفسه، وقد يكون هذا يتنقصه في نفسه ولكن العادة أنه لا يسخر من إنسان إلا بحضور آخرين، ويسخر منه ويتنقص في أمر يسخر منه، قد يسخر قوي من ضعيف غني من فقير سليم من مريض، كل هذه الأنواع المتغايرة المتفاضل فيها قد يسخر من الناقص منها.
ولكن يقول سبحانه: (عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) ، الخيرية هذه لها جهتان: خيرية في الدنيا، وخيرية في الآخرة.
عسى أن يكونوا خيراً منهم عند الله، أنت تسخر منه وهو خير منك عند الله، يبقى فالسخرية حينها ترجع عليك أنت، كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر عليهم -وهو في أصحابه- رجل قوي جلد ذو هيئة فقال: (ما تقولون في هذا؟ قالوا: نعم الرجل، إن استأذن أذن له، وإن تحدث أصغي إليه وإن خطب زوج.
فسكت عنهم حتى مر إنسان مسكين نحيف الجسم ضعيف الحال، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: إن تحدث لا يصغى إليه، وإن استأذن لا يؤذن له، وإن خطب لا يزوج.
قال: لهذا خير من ملء الأرض من ذاك عند الله) ، فهذا الذي تنظرون إليه على أنه ضعيف أو تزدريه أعينكم خير من ملء الأرض من ذاك الذي ملأ أعينكم وأخذ إعجابكم.
هذه الخيرية عند الله.
لكن وإن قال جميع المفسرين هذا ولكن نقول: هذا في الدنيا؛ أنت غني تسخر من فقير، وما يدريك أن هذا الفقير على مكارم الأخلاق، وأحسن العادات صدوق في الحديث، وفيّ في العهود، محافظ على أوامر الله، يقيم الصلاة، يصوم رمضان، بينما أنت مفرط في بعض ذلك.
قد تسخر منه لصحتك وهو مريض، وما يدريك لعله في مرضه يقوم الليل ويناجي ربه، وأنت غارق في النوم.
إذاً: قد تكون الخيرية في الدنيا بجوانب أخرى، أنت استنقصته بفقره والله عوضه من ذلك، ولهذا جاء عن الإمام علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: (إن الله تعالى قسم العطاء على الخلق، ولو نظرت في أحوال الناس لوجدتهم من حيث العطاء سواء) قد تقول: كيف هؤلاء متساوون: هذا فقير وهذا غني، وهذا صحيح وهذا مريض، قال: (إن أعطى هذا مالاً ومنعه من هذا، فقد يعطي هذا راحة بال وطمأنينة نفس خير من مال هذا) ، قد يكون المال مشغلاً لصاحبه، مقلقاً له، مؤرقاً إياه، ولكن هذا راض بما قسم الله له، والرضا عطاء من عند الله، فيبيت مطمئناً راضياً قانعاً، فيكون أسعد حالاً، وقد يعطي الله هذا مالاً ويمرض هذا ويعطيه من الحكمة والعلم ما يساوي مئات المرات مما أعطى هذا من صحة ومال.
وكما جاء عن عروة بن الزبير: أنه سافر إلى العراق إلى معاوية وحصل له في الطريق ما حصل، وهناك أصيبت ساقه، فجاء الطبيب فقال: لابد من بترها حتى لا يتفشى المرض في باقي الجسم فتقضي على حياتك، أخيراً: قطعت الرجل، فلما جاء إلى المدينة غطاها، وكان الناس يأتون يسلمون عليه ويعزونه في رجله، فدخل عليه أناس من أصحابه الأخصين، فقال لابنه: (اكشف عن رجلي ليراها فلان، فنظر إليه فضحك، قال: ما يضحكك على هذه المصيبة؟ قال: نحن ما أعددناك للسباق والصراع، ولكن أعددناك للعلم والفقه -وكان عروة أحد الفقهاء السبعة- قال: والله ما عزاني أحد فيها كما عزيتني أنت) ؛ فلئن ذهب جزء من الساق أو الساق بكاملها فقد أعطاه الله سبحانه وتعالى من العلم والحكمة ما يفوق على الدنيا وما فيها.
إذاً: عسى أن يكونوا في الدنيا بجوانب أخرى خيراً منكم؛ فلا يسخر قوم من قوم.
إذا رأى الإنسان من نفسه تطلعاً أو تطاولاً وجاء الشيطان وأغراه فليقمع الشيطان عنه، وليعلم بأن هناك صفات أخرى إما معنوية أو حسية هي خير مما يسخر به هذا الإنسان.
إذاً: فالأحمق وغير العاقل هو الذي يسخر من أخيه الإنسان، ألفقره وغناك تسخر منه؟ فالغنى ليس بمحض جهدك بل الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، لينظر هل يشكر أم يكفر، يصبر أم يضجر؟ فهو عطاء من عند الله، والصحة كذلك ليست من جهدك ولا من عطائك، وهكذا لا ينبغي لعاقل قط أن يسخر من إنسان آخر رآه في حسبانه هو أنه منقصة في هذا الشخص الآخر، لا وكلا، ولذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (والله إني لأخشى لو أنني سخرت من كلب أن يمسخني الله كلباً) .

الخيرية الموجبة لعدم السخرية بين النساء
ثم قال الله: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ) ، امرأة هي جميلة في نظرها تنظر إلى أخرى وترى أنها ذميمة، هي رابعة الطول وهي قصيرة، ذات حسب ونسب، وتلك خادمة مسكينة، وكذلك كل ما يقال ويوجد في الرجال للرجال يقال ويوجد في النساء للنساء، قد تسخر منها لجمالها وتكون إما عند الله هي خير منها، وإما أن تكون في الدنيا أيضاً.
أنس رضي الله عنه لما تزوج ودخل على زوجه -ما كان رآها قبل ذلك- فلما نظر إليها كأنه كان يتوقع أحسن من هذا، فعرفت ذلك في وجهه، فقالت: يا أنس! إن الله تعالى يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] .
وهو رجل فقيه لما سمع كلام الله وفي وقت حرج مثل هذا قال: قبلنا، فرزقه الله منها بـ مالك فعوضه الله بأعلى من المستوى الذي كان يريد، ومالك جاء بجارية ورزق منها بهذا الولد الذي أصبح إمام دار الهجرة، والله لو كان سيزنها بالذهب فإنه لا يعادلها، لو أن امرأة أخرى في جمالها وحسبها رأت تلك المرأة التي تزوجها أنس لازدرتها، ولو كانت تعرف بأنها سوف تنجب مالك بن أنس، في تلك الساعة ازدرت نفسها عند تلك المرأة.
يقول بعض العلماء: إن القسمة هنا ثنائية رجال من رجال.
هذا قسم، نساء من نساء.
هذا قسم آخر، ولم يأت ذكر رجال يسخرون من نساء، ولا قسم نساء يسخرن من رجال؛ لأن بين الرجل والمرأة بون شاسع، وكمال الرجل لا يجعله يضع نفسه في مقارنة مع امرأة؛ لأنه ينظر نقائصها فلا يسخر منها، وكذلك المرأة مع الرجل؛ لأنها ترى أن الرجل أعلى منزلة منها، فلا تضع نفسها في رفعة حتى أنها تسخر من الرجل، فرجولته تغطي كل شيء، ولذا جاء بالفريقين فقط: قوم من قوم، ونساء من نساء.

السخرية أصل كل خطيئة
أشرنا سابقاً بأن كل الخطايا والجرائم والآثام الشخصية قد يقال: إن منشأها من السخرية؛ لأنك سخرت منه عندما رأيت نفسك أعلى منه وهو دونك، فاستنقصته فصار هناك الغمز واللمز، وصار هناك الاعتداء وكانت هناك الآثام، (بحسب امرئ مسلم من الإثم أن يحقر أخاه المسلم) ، يكفيه ذنب واحد في الدنيا لهلاكه وتعذيبه وهو الاحتقار، والاحتقار سيؤدي إلى السخرية، إذ السخرية نتيجة الاحتقار، ويحمله ذلك على معصية الله.
ويقولون: إن أول معصية وقعت إنما هي الحسد، أي: حسد إبليس أبانا آدم على ما أكرمه الله به من أنه خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود إليه، وأمر بسكناه الجنة، وإبليس لم يجد شيئاً من هذا، فحسده على تكريم الله إياه، وأقول: إن قبل الحسد كانت السخرية، فإبليس ما حسد آدم إلا من بعد ما سخر منه واحتقره، ولما احتقره استكثر نعم الله عليه وأنه لا يستحقها، وهذا الذي يجري عند الناس إذا رأوا نعمة الله على عبد قالوا: لا يستحقها.
وليس أهلاً لهذا، يعني: يسخر منه ويتنقصه ويستكثر نعم الله عليه، فهو محارب لله في عطائه لبعض خلقه.
أقول: إن السخرية سبقت الحسد، والحسد جاء بسب السخرية، وكانت نتيجة الحسد الكبر، ونتيجة الكبر العصيان {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَاسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ} [ص:75] ، رجع إلى أصله الذي خلق منه، وسخر من آدم ومن أصله الذي خلق منه، وهو مخطئ في هذه المقدمات، ومخطئ في هذه النظرية، ويقول العلماء: إن الطين خير من النار، ولولا الطين ما كانت النار، {أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} [الواقعة:71-72] .
وقود النار من الشجر الذي ينبت في الطين، فالطين أصل، ويقولون: لو أخذت نواة وألقيتها في النار فإنها ستحترق ولا تنبت، ولكنها إذا رميت في الطين فإنها ستنمو وينتفع بها الغير، فأصل الطين ينبت ما هو خير، وأصل النار يهلك غيره، وعلى هذا يقول: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:73-74] ، وعلى هذا يحذر الإنسان العاقل من أن يقف موقف السخرية من أي إنسان كان حتى وإن كان كافراً، فإنك تستعيذ من حاله، وقد تشفق عليه لمآله، لكن لا تسخر منه، فإن الله كتب عليه هذا، ولو استطعت أن تدعو له بظهر الغيب أن يهديه الله ويأخذ بيده إلى الإسلام والإيمان كان خيراً من أن تسخر منه.
إذاً: هذا كله مبدأ عظيم في هذه السورة الكريمة، وكما أشرنا سابقاً أننا نسميها سورة الآداب أو سورة الأخلاق، وهذا من أعظم تهذيب أخلاق الأمة الإسلامية، بأن لا يسخر بعضها من بعض لا أفراداً ولا جماعات.

نهي الإسلام عن اللمز والغمز
قال الله تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) ، اللمز -كما يقولون- التعريض بالكلمات، والغمز بالعين، وفي الحديث: (انتظرت لعل أحدكم قام يضرب عنقه، قالوا: هلا غمزت لنا؟ قال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين) الأنبياء صرحاء في مقالاتهم لا يأتون بالغمز ولا باللمز.
ومجيء النهي: (وَلا تَلْمِزُوا) ؛ لأن من سخر من إنسان في نفسه لمزه بلسانه عند غيره، فهذا مترتب على ذاك، وهذا من الإعجاز القرآني والسبك في الأسلوب، وترتيب الأحداث بعضها على بعض.
وهل الإنسان يلمز نفسه؟ يقول العلماء: نعم، وهذا بوجهين: الوجه الأول: كما في قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29] ، لا أحد يقتل نفسه إلا المنتحر والعياذ بالله.
حينما تلمز أخاك المسلم فكأنما لمزت نفسك؛ فأنت وهو شيء واحد، والأمة الإسلامية كلها كالجسد الواحد، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد) ، أو كالبنيان المرصوص بعضه يربط بعضاً، فلما كان الإسلام يعتبر الأمة كياناً واحداً؛ فمن لمز فرداً من الأفراد فقد حمل نفسه في عموم الوحدة الإنسانية باللمز الذي طرأ على غيره، وهذا غاية الترابط والتراحم والتآلف.
الوجه الثاني: لا تلمز إنساناً ولو كان بشيء واقع فيه، ولا يرضاه، فسيلمزك بمقابل هذا سواء كان فيك أم لا، صدقاً أو كذباً؛ انتقاماً لنفسه وانتصاراً لشخصه؛ فتكون أنت قد لمزت نفسك بلمزك أخاك، كما قال الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:108] هذا سداً للذريعة، وجاء في الحديث: (لا يسب الرجل أباه ولا أمه، قيل: أو يسب أحد أباه أو أمه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه، ويسب أمه فيسب أمه) ، فيكون هو المتسبب في سب أبيه وأمه.
وعلى كلا المعنيين -وكلاهما جليل- على الإنسان أن يتحفظ من ذلك.

نهي الإسلام عن التنابز بالألقاب
قال الله عز وجل: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) ، اللقب هو: اسم يشعر الإنسان بمدح أو ذم، فألقاب المدح لا بأس بها، كما يمثل العلماء بـ الصديق لـ أبي بكر، والفاروق لـ عمر، وذي النورين لـ عثمان، وأبي تراب لـ علي، رضي الله عنهم جميعاً، فهذه لا بأس بها، أما الألقاب التي يكرهها الإنسان، وكما جاء في كتب التفاسير عموماً: أن الرجل في الجاهلية كانت له عدة أسماء، وكان إذا نودي ببعضها يكره ذلك، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن للرجل عدة أسماء، فكان يناديه ببعضها، فيقولون: يا رسول الله! إنه يكره هذا، أي: يكره هذا الاسم من بين كل تلك الأسماء، فيناديه بالاسم الذي لا يتأذى منه.
(وَلا تَنَابَزُوا) ، أي: لا يلقي بعضكم على بعض الألقاب السيئة التي يتأذى منها صاحبها ولو كانت فيه حقيقة، وهذا يستثنى منه عند علماء الحديث في معرفة الرجال، وتجدون في بعض الروايات: عن فلان الأعرج، أو الزيات، أو الخرقي، يعني: بائع الزيت أو بائع الخرق، وهي ألقاب قد تستنكرها العرب لكن لكونه لا يعرف إلا بذلك أو اشتهر عند الناس بذلك فلا مانع أن يذكر للتعريف لا للنبز ولا للإهانة.
ويذكر ابن جرير الطبري عن مجاهد عند قوله تعالى: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) بأن هذا داخل بالألقاب التي تتصل بالإسلام، كأن يقول إنسان لشخص لخطأ ما: يا فاسق.
يا منافق.
يا فاجر فيقولون: هذا هو التنابز بالألقاب -أي: الصفات التي لا يرضاها الإسلام، وبعضهم يقول: هي أعم من هذا، وعلى هذا الرأي: إذا كان التنابز بالألقاب يختص بصفات الإسلام ومخالفاتها فنحن نقول اليوم: لا تنابزوا بقولكم: فلان متعصب، فلان مقلد، فلان مجتهد، فلان صفته كذا، فلان يحمل كذا، لا ينبغي لطالب العلم أن يصف زميله في طلب العلم بصفة لا يرضاها لنفسه، وماذا في ذلك إذا كان ما يأخذه من المذهب حق، ومستند إلى مستند شرعي؟ نعم.
الحال أن يتمسك بما يراه حقيقة أو أرجح، لكن الذنب فيما إذا كان طالب علم ووجد مسألة خلافية والمذهب الذي هو ملتزم به أخذ بجانب لا دليل عليه، أو عنده دليل وعند المذهب الآخر ما هو أرجح وأقوى منه وأخذ به الجمهور؛ فلا يحق له أن يتعصب لهذا الرأي الضعيف لمجرد أنه مذهب صاحبه، لا ينبغي هذا، ولكن لا نعيبه في الدين، إنما هو أمر اجتهادي، ورأى إمامه هذا الرأي وأخذ به؛ فلا ينبغي أن نجعل ذلك موضع لمز وغمز وتنابز بالألقاب، ويأتي إنسان ويقول: هذا متطرف، لأنه يأخذ بكذا وكذا لا ينبغي أن يكون الاختلاف في الرأي موضعاً للتنابز بالألقاب، بل الواجب على طلبة العلم أن يصلوا الرحم الذي بينهم، ألا وهو العلم، فهو رحم بين أهله، وعلى هذا فإن الواجب على طلبة العلم أن يلتفوا حول العلم، فإذا كانت مسائل خلافية، أو اجتهادية؛ فلا ينبغي أن تكون سبباً في نبز البعض أو لمزه.
والفرق بين المسائل الاجتهادية والخلافية هو: أن المسائل الخلافية فيها نص واختلف في معناه، أو نصوص تعارضت واختلف فيما يؤخذ منها؛ لأن الذي بين المختلفين فيها الأدلة نفسها، أما المسائل الاجتهادية: فليس فيها نص، وإنما نظرها العلماء واجتهدوا فيما يحملونها عليه من قاعدة عامة، أو آية أو حديث، بمفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة، والقياس يكون هناك قرائن تحمل عليها؛ فهذه اجتهادية نشأت من اجتهاد العلماء فيها، وكلا الأمرين لا ينبغي الاختلاف فيه بين الناس، ولا يكون الاختلاف في الأدلة سبباً للنزاع والفرقة، وقد ذكرنا في رسالة: موقف الأمة من اختلاف الأئمة، وكان الأئمة إذا التقوا أو تلاميذهم على اختلاف ما بينهم بالمذهب لم يكونوا متفرقين، ومتخاصمين، ومتحزبين، ومن أغرب ما قرأت عن الشافعي رحمه الله: أنه لما جاء إلى بغداد، للأعظمية -حي الإمام الأعظم أبي حنيفة - وكان هناك مسجداً فلما صلى فيه لم يقنت في الفجر، فقيل: لم لم تقنت وهو مذهبك؟ قال: احتراماً لصاحب هذا القبر، وأبو حنيفة يرى القنوت في الوتر، والشافعي بعد وفاة أبي حنيفة يترك القنوت في الفجر حتى لا يكون مخالفاً لـ أبي حنيفة عند قبره.
وعندما قيل للإمام أحمد: أتصلي خلف من أكل لحم الجزور ولم يتوضأ؟ وأحمد يرى الوضوء من أكل لحم الجزور، فقال: كيف لا أصلي وراء مالك وسفيان وفلان وفلان، هل اختلافي معهم في مسألة يمنعني من أن أصلي وراءهم؟ وقد أطلنا في هذه النقطة؛ لأنها -في نظري- تخص طلبة العلم أكثر من عوام الناس، فعوام الناس قد يفعلون ما يفعلون بجهل أو بدافع غريزة ما، ولكن طلبة العلم يقعون في ذلك عن قصد، وهذه هي الداهية الكبرى؛ لأنها تفرق بينما يجب عليهم أن يجتمعوا ويعملون على اجتماع الأمة لا أن يكونوا هم مصدر الخلاف والفرقة.
إذاً: (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) أياً كان هذا اللقب، كما قيل عن مجاهد: يا فاسق يا منافق يا سارق يا زاني يا شارب أو أنه كان فيه معان أخرى ويلحق بذلك ما أشرنا إليه مما يجب أن يكون عليه طلبة العلم من الابتعاد من أن يلمز بعضهم بعضاً بألقاب لا يرضاها هو لنفسه.

وصف القرآن للعصاة
قال الله تعالى: {بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} [الحجرات:11] ، من هذا أخذ مجاهد بأن النبز بالألقاب: يا فاسق يا منافق، وهنا بئس الاسم، والاسم هو العلامة، مأخوذ من السمة ومن الوسم، فهو عند الإنسان اسم، وعند الحيوان وسم، فتسم الإبل على العنق أو الكتف أو الفخذ بحديدة محماة في النار، وتطبع طابعاً في ذلك المكان على أن هذا البعير لقبيلة كذا، فإذا هذا البعير شرق أو غرب ورأته القبائل الأخرى عرفوا بأنه ملك للقبيلة الفلانية؛ فهو هنا وسم.
وإذا ما شرق أو غرب إنسان يسأل: ما اسمك؟ يقول: اسمي فلان، فيعرف باسمه.
(بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ) بعد ما كان يقال: يا مؤمن، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ} [الحجرات:11] ، فإذا وقعت السخرية كانت السخرية معصية، والمعصية خروج عن طاعة الله، والخروج لغة: الفسق، والفسق أعم من المعاصي، فقد يكون مخرجاً من الملة، وقد يكون كبيرة من الكبائر، وقد يكون صغيرة من الصغائر، أو مطلق الخروج عن الجادة وعن الصراط المستقيم.
يا أيها الذي ينبز بالألقاب لقد كان فعلك فسقاً، والآن يقال لك: فاسق بتنابزك بهذا الاسم بعد أن كان يقال لك: يا مؤمن؛ لأنك لم تؤذ غيرك.
{بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ} والمراد به: من وصف بالفاسق، أو المراد به من نبز غيره واستحق وصف الفسق بنبزه أخاه باللقب الذي يكرهه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) .
أي: فتوبوا إلى الله من هذا العمل، وتوبوا إلى الله مما وقعتم فيه من سخرية واستهزاء ولمز وتنابز بالألقاب، توبوا من هذا كله.
{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] لم يقل الفاسقون، مع أنه معصية وفسق، ولكن جاء بالوصف الأخص.
يقول علماء اللغة: إن الظلم لغة: وضع الشيء في غير محله، فإذا جاء إنسان وظلم آخر وأخذ ماله ووضعه في غير موضعه، كيد الغاصب والأصل أن يكون في يد مالكه؛ فقد ظلمه.
فكذلك هؤلاء جميعاً، فمن سخر من إنسان فقد وضع السخرية في غير موضعها؛ لأنه سخر من شخص عسى أن يكون خيراً منه، فإذا كان خيراً منه فلا موضع للسخرية وهو ظلم له، وإذا لمز إنساناً بعينه بعيب فيه أيضاً فقد يكون ظلمه؛ لأن هذا العيب لم يأت به هو وإنما أنت الذي أشهرته، فأنت ظالم في نقله إلى الآخرين، ومثله التنابز بالألقاب؛ فأنت وضعت هذا اللقب في غير موضعه؛ لأن صاحبه يكرهه ويتبرأ منه، لكنه لصق به.
إذاً: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، فالظلم درجات، أعلاها الشرك، كما قال لقمان لابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وكذلك الإنسان يظلم نفسه بالمعصية، وبالمكروه إلى غير ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق