الثلاثاء، 5 يناير 2016

محاضرة 23-11-2015 المسجدالكبير - سورة البفرة من 246 الى 252

أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)



من الدروس المستفادة:
1- قصص القرآن فيها العبر والعظة وتعرض علينا الي ان يرث الارض ومن عليها.
2- التحذير من الوقوع في مثل حال بني اسرائيل في القتال او بعد كتبه عليهم
3- حق المؤمن ان يأبي الحرب ولا يطلبه فانه ان طلبه فأوتيه عجز كما عجز هؤلاء القوم حين تولو الا قليلا.
4- من اسباب خذلان الله سبحانه للمقاتل ان تكون نيته ليست لله سبحانه
5- خطورة تربية المجتمع علي التنعم
6- الصفات التي يجب ان يتصف بها الملك
7- تقديم البسطة في العلم علي البسطة في الجسم وذلك لان الفضائل النفسانية اعلي من الفضائل الجسمانية
8- الفرق بين المقاييس الربانية والمقاييس البشرية في اصطفاء البشر
9- اسباب النصر علي الاعداء التحريض علي القتال واستشعار للصبر والصدق مع الله
10- حسن الترتيب في هذه الاية حبث طلبوا اولا افراغ الصبر علي قلوبهم عند اللقاء ثانيا ثبات القدم والقوة علي مقاومة العدو ثالثا النصر علي العدو.
11- الثقة المحمودة والثقة المذموم
12- الدين والملك توأمان ففي ارتفاع احدهما ارتفاع الاخر
13- جعل الله المدافعة بين المؤمنين والكفار دائمة الي يوم القيامة.
14- في هذه الاية بين الله بعضا من فضله علي العالمين.


التفسير و البيان
ألم ينته إلى علمك قصص جماعة من بني إسرائيل بعد موسى في عصر داود عليهما السلام، حين قالوا لنبيهم، قيل: إنه «صمويل» : اختر لنا قائدا للحرب وجمع الكلمة، فإنا صممنا على طرد أعدائنا واسترداد حقوقنا المغتصبة، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل الله، كما قال الله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء 4/ 84] وقال سبحانه: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا.. [آل عمران 3/ 167] .
ولكن نبيهم بسبب معرفته لهم وتجربته معهم قال لهم: أتوقع منكم التخلي عن القتال إن فرض عليكم، فردوا عليه: أي شيء يدعونا إلى ترك القتال، وقد أخرجنا من ديارنا وأوطاننا، ومنعنا من أبنائنا، واغتربنا عنهم؟! فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا، تخلفوا عن الجهاد وجبنوا وأعرضوا إلا قليلا منهم، عبروا النهر مع طالوت، وانتحلوا المعاذير، ولكن الله عليم بالذين يظلمون أنفسهم، بتركهم الجهاد في سبيل الله، دفاعا عن أمتهم ووطنهم، وردا لحقهم المغتصب، فصاروا أذلة في الدنيا، معذبين في الآخرة.
ثم أوضح القرآن ما دار من نقاش بين شيوخ بني إسرائيل وبين نبيهم صمويل، إذ طلبوا منه أن يختار لهم ملكا، لأن أهل فلسطين تسلطوا عليهم، وقتلوا منهم العدد الكثير، وأخذوا تابوت عهد الرب، وكانوا من قبل يستفتحون به (يطلبون الفتح والنصر به) على أعدائهم.
فحذرهم وأنذرهم ظلم الملوك، فألحوا، فاختار لهم طالوت (شاول) ملكا وقائدا حربيا.
فقالوا: كيف يكون ملكا علينا؟ وهو لا يستحق هذا الملك، لأنه ليس من سلالة الملوك ولا من سلالة الأنبياء، وقد كان الملك في سبط يهوذا بن يعقوب، ومنهم داود وسليمان، وكانت النّبوة في سبط لاوي بن يعقوب، ومنهم موسى وهرون، وهناك من هو أحق بالملك منه، ولأنه فقير لا مال له فلا يستطيع الحكم، وهذا قائم على وهم أن الغنى شرط أساسي في الملك، وأن الملك حق موروث، لا يتجاوز أبناء الملوك أو الأشراف، حتى يخضع الناس له، فقولهم أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا..؟ كلام من تعنت وحاد عن أمر الله، وهي عادة بني إسرائيل. فقال لهم نبيهم: إن الله قد اختاره ملكا عليكم، والله لا يختار إلا ما فيه الخير لكم، وما عليكم إلا الطاعة والامتثال، ومقومات الملك متوافرة فيه وهي ما يأتي:
الاستعداد الفطري، وسعة العلم والمعرفة بتدبير الأمور، وبسطة الجسم وكمال قواه المستلزمة لصحة الفكر والهيبة وفرض النفوذ، وتوفيق الله تعالى له بسبب أهليته وصلاحه، وهذا هو المراد بقوله: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ أي الملك له غير منازع فيه، فهو يؤتيه من يشاء ومن يصلح للملك، فلا اعتراض على حكم الله، وهو أعلم بخلقه وبالصالح منكم، وبما يستحقونه، والله واسع عليم، أي واسع التصرف والقدرة، لأحد لسعة قدرته وتصرفه، وواسع الفضل والعطاء يوسع على من يشاء ويغنيه بعد فقر، عليم بما يحقق الحكمة والمصلحة، وبما يؤدي إلى الفوز والنصر، وبمن يصطفيه للملك.
كان لبني إسرائيل مواقف تشدد وغلو ومطالب مادية مع أنبيائهم، ومنها هذا الموقف، إذ لم يقبلوا باختيار طالوت ملكا عليهم واشتدوا في عنادهم، فقال لهم نبيهم: هناك دليل مادي على صحة اختياره ملكا وقائدا لكم، وعلامة ذلك عودة التابوت (وكان له شأن ديني عندهم) إليكم عن طريقه ووصوله إلى بيته، وفيه تحقيق الطمأنينة لقلوبكم وارتياح ضمائركم، وبخاصة عند ما تقدمونه رمزا وشعارا وحاميا في قتالكم، وفيه أيضا بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وتلك البقية: هي قطع الألواح وعصا موسى وثيابه وعمامة هارون وشيء من التوراة وأشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون.
وقول النبي لهم: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ لا يكون إلا بوحي، لأنهم سألوه تعيين ملك لهم يقاتل في سبيل الله، فأخبرهم النبي أن الله قد بعثه لكم.
وستحمل الملائكة التابوت إلى طالوت تشريفا وتكريما له، وإن في مجيئه أو عودته دليلا على عناية الله بكم، واختيار طالوت قائدا لكم، لينهض بشؤونكم، وينتصر على عدوكم، فعليكم مؤازرته والرضا بملكه إن كنتم صادقي الإيمان بالله تعالى.
فالتفّ الناس حول قيادته واختار من شبابهم سبعين أو ثمانين ألفا، وكان الوقت حرا، فأراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدقهم في القتال، فلما خرج طالوت من البلد مع هؤلاء الجند، بدأ بالاختبار، كما يفعل كل قائد حكيم. فقال لهم: إن الله مختبركم- وهو الأعلم بكم- بنهر يصادفنا في أثناء الطريق إلى الأعداء، فمن شرب منه فليس من أتباعي وأنصاري، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبي وأعواني، وكذا من اغترف بيده غرفة فقط يبل بها ريقه ويدفع بها شيئا من العطش، فالمرفوض هو النوع الأول، والمقبول: النوعان الآخران.
فكانت نتيجة الاختبار: أن شربوا منه جميعا، لاعتيادهم العصيان، وضعف الإيمان، إلا قليلا منهم وهم أهل الإيمان، وصدق الاتباع، والإخلاص في الدين. والخير في الواقع في هذه الفئة القليلة، التي تفعل بصدق إيمانها، وصلابة عزيمتها ما لا تفعله الفئة الكثيرة العدد، ولكنها غثاء كغثاء السيل.
فلما جاوز طالوت النهر مع هذه القلة من المؤمنين الصادقين الذين أطاعوه ولم يخالفوه فيما منعهم منه، ثم تبعهم الذين شربوا من النهر أخيرا، قال بعض الجيش المؤمن لبعض، لما رأوا جالوت وكثرة جنوده، وتفوقهم عددا وعددا:
لا قدرة لنا على محاربة هؤلاء الأعداء، وهم جالوت وجنوده، فضلا عن الأمل في التغلب عليهم، فرد عليهم بقية المؤمنين الذين يوقنون بلقاء ربهم ومجازاته على أعمالهم في الآخرة، والذين ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة في سبيل الله، وإما النصر على الأعداء: لا تغرنكم كثرة الأعداء، فكثيرا ما غلبت الفئة القليلة العدد بقوة إيمانها ومشيئة الله الفئة الكثيرة العدد، والله مع الصابرين بالتأييد والعون، فإن النصر مع الصبر. ولما ظهر طالوت ومن معه من جماعة المؤمنين لأعدائه الفلسطينيين:
جالوت وجنوده، وشاهدوا ما هم عليه من كثرة العدد وقوة العدد، لجأوا إلى الله يدعونه، كما هي عادة المضطر الخائف الذي لا يجد ملاذا غير الله في وقت الشدة وعسر المحنة، فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً، وَثَبِّتْ أَقْدامَنا، وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ. أي ألهمنا الصبر، وثبّت نفوسنا في القتال، وحقق النصر لنا على الكافرين: عبدة الأوثان، الذين يحبون الدنيا وتمتلئ قلوبهم بالأباطيل.
وهذا دعاء عظيم في مثل هذا الموقف الرهيب، وفيه حكمة وعقل، إذ الصبر سبب الثبات، والثبات سبب النصر، وأحق الناس بالنصر هم المؤمنون.
وهنا تجلت عظمة الله ونعمته عند صدق الإيمان وصدق اللجوء إليه، فأذن بنصر المؤمنين، واستجاب دعاءهم، وهزمت الفئة القليلة تلك الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته، وقتل داود الفتى القوي جالوت جبار الفلسطينيين في مبارزة، إذ رماه بمقلاعه، فأصاب الحجر رأسه فصرعه، ثم دنا منه، وأخذ سيفه، واحتزّ به رأسه، وجاء به فألقاه بين يدي طالوت، وانهزم جنوده وأتباعه.
فاشتهر داود بين الناس، وورث ملك بني إسرائيل، وآتاه الله النبوة، وأنزل عليه التوراة، وعلمه صنعة الدروع، وعرفه منطق الطير، وعلمه علوم الدين وكيفية فصل الخصومات، كما قال الله تعالى: وَشَدَدْنا مُلْكَهُ، وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص 38/ 20] ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله، إذ كان لبني إسرائيل في الماضي نبي وملك، وكان النبي قبل داود هو شمويل (صموئيل) ، والملك هو طالوت، فلما توفيا صار له الملك والنبوة. ثم بيّن الله تعالى الحكمة من القتال، فإذا كانت الحرب ظاهرة اجتماعية منذ أن اقتتل أبناء آدم، فقتل قابيل هابيل، ولا تخلو من ضرر وخطر، فإنها لا تخلو أيضا من نفع وخير، فلولا دفع الله أهل البغي والشر بأهل العدل والإصلاح والخير، وتسليط جماعة على أخرى، لغلب أهل الفساد، وفسدت الأرض، وعمت الفوضى، وساد الظلم، وهدّمت أماكن العبادة لذكر الله، ولكن الله ذو فضل كبير على الناس جميعا، وذو رحمة بهم، حيث يسلط على الظالم من يهلكه، ويدحر أهل الباطل بجند الحق، فإذا ظهر ظالم آخر، أرسل الله له في الوقت المناسب من يخلص الناس منه، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب، ويؤيد أعوانه في اللحظة الحاسمة التي يريدها.
تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد، وتلك القصص الغابرة نعرفك بها، فهي مطابقة للواقع والتاريخ، ولم تكن تعلمها، لأنك نبي أمي، لتكون دليلا على صدق نبوتك وصحة رسالتك، وليقتنع بها معاصروك وتصدّق بها الأجيال المتلاحقة على ممر الزمان، وهكذا تكون القصص عبرة وعظة يستفيد منها كل إنسان، كما قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُدىً، وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف 12/ 111] .

أضواء من التاريخ على قصة طالوت وجالوت :
ظل بنو إسرائيل بعد مجيئهم إلى فلسطين بعد موسى عليه السّلام من غير ملك 356 سنة، وتعرضوا في تلك الفترة لغزوات الأمم القريبة منهم كالعمالقة من العرب، وأهل مدين وفلسطين والآراميين وغيرهم، فمرة يغلبون وتارة يغلبون.
وفي أواسط المائة الرابعة أيام «عالي الكاهن» تحارب العبرانيون مع الفلسطينيين سكان أشدود قرب غزة، فغلبهم الفلسطينيون، وأخذوا تابوت العهد منهم، وهو التابوت (الصندوق) الذي فيه التوراة أي الشريعة، فعزّ عليهم ذلك، لأنهم كانوا يستنصرون به.
وكان من قضاة بني إسرائيل نبي اسمه صمويل، جاء إليه جماعة من أشرافهم وشيوخهم في بلدة الرامة، وطلبوا منه تعيين ملك عليهم، يقودهم إلى قتال أعدائهم الذين أذلوهم وقهروهم زمنا طويلا، فلم يقتنع بمطلبهم لما يعلمه من تخاذل نفوسهم، إن فرض عليهم القتال، فأجابوه بأن دواعي القتال موجودة:
وهي إخراج الأعداء لهم من أوطانهم وأسرهم أبناءهم.
فجعل عليهم طالوت ملكا، واسمه في سفر صمويل: شاول بن قيس، من سبط بنيامين، وكان شابا جميلا عالما وأطول بني إسرائيل، فرضي به جماعة، ورفضه آخرون، لأنه ليس من سلالة الملوك، وهو راع فقير. وحاول صمويل إقناعهم بكفاءة طالوت وجدارته للملك والسلطة، وحسن الاختيار، ورضا الله عنه، وأن الدليل المادي على ملكه هو عودة التابوت الذي أخذه منهم الفلسطينيون إليهم، وأن الملائكة تحمله إلى بيت طالوت تشريفا وتكريما له، فرضوا به.
قام طالوت بتكوين الجيش وجمع الجنود لمحاربة الفلسطينيين (العمالقة) بزعامة أو إمارة جالوت الجبار الذي كان قائدهم وبطلهم الشجاع الذي يهابه الناس. وتم فعلا اختيار سبعين أو ثمانين ألفا من شباب بني إسرائيل، وخرج معهم لقتال الأعداء.
ولكن حكمة القائد طالوت ومعرفته بهم وتشككه في صدقهم وثباتهم، دفعته إلى اختبارهم في أثناء الطريق وفي وقت الحر بالشرب من نهر بين فلسطين والأردن، فتبين له عصيان الأكثرين، وطاعة الأقلين، فتابع الطريق وتجاوز النهر مع القلة المؤمنة، ولكن بعضهم قالوا حين مشاهدة جيش جالوت العظيم:
لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، فرد عليهم الآخرون بأنه كثيرا ما غلبت الفئة القليلة فئات كثيرة بإذن الله.
وكان من حاضري الحرب داود بن يسّى الذي كان شابا صغيرا راعيا للغنم، لا خبرة له بالحرب، أرسله أبوه ليأتيه بأخبار إخوته الثلاثة مع طالوت، فرأى جالوت يطلب المبارزة، والناس يهابونه، فسأل داود عما يكافأ به قاتل هذا الفلسطيني، فأجيب بأن الملك يغنيه غنى جزيلا، ويعطيه ابنته، ويجعل بيت أبيه حرا.
فذهب داود إلى طالوت يستأذنه بمبارزة جالوت أمير العمالقة وكان من أشد الناس وأقواهم، فضن به وحذره، فقال: إني قتلت أسدا أخذ شاة من غنم أبي، وكان معه دب فقتلته. ثم تقدم بعصاه وخمسة أحجار ماس في جعبته، ومعه مقلاعه، وبعد كلام مع جالوت، رماه داود بحجر، فأصاب جبهته فصرع، ثم تقدم منه وأخذ سيفه، وحزّ به رأسه، وهزم الفلسطينيون، فزوجه الملك ابنته «ميكال» وجعله رئيس الجند.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق