الاثنين، 22 يونيو 2015

النداء الخامس: في وجوب اجتناب كثير من الظن وحرمة التجسس والغيبة. ووجوب تقوى الله عز وجل



الآية (12) من سورة الحجرات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} .
الشرح:
هذا النداء الخامس من نداءات الرحمن لعباده المؤمنين في سورة الحجرات، وكل هذه النداءات تدور حول إصلاح الفرد المؤمن في المجتمع الإسلامي، إذ الأول دعا المؤمن أن لا يقدم رأيه على الكتاب والسنة بحال من الأحوال لتبقى الشريعة هي الحكم، وإليها التحاكم فما أشرعته، فهو الشرع، وما أوجبته فهو الواجب، وما حرمته فهو الحرام. والنداء الأول: قرر الأدب الواجب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وعلماء أمته هذا أولا. والثاني: الأدب سمة من سمات أهل الإيمان، فلا يحل التخلي عنها أبدا، إذ هي ميزة الأمة الإسلامية، والثالث: أوجب التثبت والتروى في إصدار الأحكام في كل قول وحادثة حتى لا يقع الفرد أو الأمة في خطر يزعزع أمنها ويحط من قدرها أو يحملها ما هي في غنى عنه، والرابع: حرم السخرية والاستهزاء بالمؤمن، واحتقاره والانتقاص من كرامته وشرفه كما حرم ألقاب السوء المفضية إلى النزاع والقتال بين المؤمنين؛ لأنهم أمة واحدة. وهذا الخامس من النداءات: فقد حرم على المؤمن اجتناب كثير من الظن بإخوانه المؤمنين؛ إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي يا من آمنتم بالله ربا، وبالإسلام دينا، ومحمد رسولا {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} ، وعلل لذلك الأمر بالاجتناب فقال: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} . وما دام بعضه إثما فليجتنب بالمرة حتى لا يقع المرء المؤمن في الإثم الموجب لغضب الله وعقابه ولم يبق إلا مجال ضيق جدا وهو أن يظن المؤمن بمن هو أهل للظن بالشر لوجود قرائن من أحواله تدل على ذلك، والرسول صلى الله عليه و سلم يقرر هذه الحقيقة فيقول " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث "… الحديث.
وقوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} أي لا يتجسس المؤمن على المؤمن بتتبع عوراته. ومعايبه بالبحث عنها والاطلاع عليها لما في ذلك من الضرر الكبير، وكالتجسس التحسس، إلا أن التحسس غالبا يكون في الخير والتجسس لا يكون إلا في الشر الأذى، وقد حرم ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم في قوله في الصحيح: " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ". فقد اشتمل هذا الحديث على المحرمات الآتية:
1-الظن السيئ بالمؤمنين وخاصة أهل الصلاح منهم.
2-حرمة التجسس وهى تتبع أحوال المؤمن في الخفاء للاطلاع عليها، إلحاق الضرر به.
3-التحسس وهو كالتجسس إلا أنه تتبع أحوال المؤمن لمعرفة النقص لإكماله، وسد حاجته الضرورية، وما دام تتبعا في الخفاء فلا ينبغى، وإن أراد شيئا فليسأل المؤمن هل لك حاجة؟ أتشكو من شئ؟ إلى غير ذلك ولا يتحسس عليه.
4-حرمة النجش وهو أن يزيد في بضاعة معروضة للبيع يزيد في الثمن وهو لا يريد شراءها.
5-حرمة الحسد وهو تمنى زوال النعمة عن أخيه لتحصل له. أو لا تحصل له، وإنما يحرمها المؤمن الذي أنعم الله تعالى عليه بها.
6-حرمة التباغض، فلا يحل لمؤمن أن يبغض أخاه المؤمن، وإن بغضك أخوك فلا تبغضه.
7-حرمة التدابر وهو الهجران، وعدم التلاقى والتحدث مع بعضهما بعضا بحيث كل يعطى ظهره للآخر.
8-وجوب تحقيق الأخوة بين المؤمن والمؤمن، وهذا الواجب يتحقق بإسداء المعروف والإحسان، وكف الأذى عن أخيه فلا ظن سوء، ولا تجسس، ولا تحسس، ولا تناجش، ولا تحاسد، ولا تباغض، ولا تدابر. بهذا الفعل والترك تتحقق الإخوة الإيمانية.
وقوله تعالى في هذا النداء: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} أي بأن يذكر المؤمن في غيبته بما يكره أن يذكر به وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة فقال صلى الله عليه وسلم للسائل: " ذكرك أخاك بما يكره " قطعا هذا في حال غيابه عن المجلس فقال السائل: أرأيت إن كان في آخى ما يكره فقال صلى الله عليه وسلم: " إن كان فيه ما يكره فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما يكره فقد بهته "، والبهتان اعظم. وهو أسوأ أنواع الغيبة. وقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} ؟ والجواب معلوم هو: لا، لا، قطعا إذا، فكما عرض عليكم لحم أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذا أكل لحمه حيا، وهو عرضه، والعرض أعز وأغلى من الجسم، وإليك هذا البيت من الحكمة فاحفظه وتأمله:
فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي في غيبة بعضكم بعضا، فإن الغيبة من عوامل الدمار والخراب والفساد بين المؤمنين وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} ، جملة تعليله للآمر بالتوبة؛ إذ من اتقى الله، خافه وترك الغيبة وتاب. فأعلمهم الله عز وجل أنه تواب رحيم يقبل توبة من تاب، ويرحمه فلا يعذبه بحال من الأحوال.
فالحمد لله والمنة له، اللهم إنا تائبون إليك فتب علينا وارحمنا آمين
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

المناسبة
بعد أن بيّن اللَّه تعالى وأرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع اللَّه تعالى، ومع النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق، بيّن ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ومع الناس كافة، من الامتناع عن السخرية، والهمز واللمز والتنابز بالألقاب، وإساءة الظن وتتبع عورات الناس ومعايبهم، والغيبة والنميمة، ووجوب المساواة بين الناس، واعتقاد أن معيار التفاضل والتمييز هو التقوى والصلاح وكمال الأخلاق.
ويلاحظ سمو الترتيب الإلهي في سرد الآداب العامة في الموضوعات المذكورة، حيث رتّب اللَّه تعالى وقوع النزاع والاقتتال بين الطوائف والأفراد

سبب النزول
نزول الآية (12) :
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.

نزول الآية (13) :
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: لما كان يوم الفتح، رقي بلال على ظهر الكعبة، فأذّن، فقال بعض الناس: أهذا العبد الأسود يؤذّن على ظهر الكعبة؟ فقال بعضهم: إن يسخط اللَّه هذا يغيّره أو إن يرد اللَّه شيئا يغيره، فأنزل اللَّه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية، فدعاهم النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وزجرهم على التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء.
وقال ابن عساكر في مبهماته: وجدت بخط ابن بشكوال أن أبا بكر بن أبي داود أخرج في تفسير له أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا: يا رسول اللَّه: نزوج بناتنا موالينا؟ فنزلت الآية.
قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة.

التفسير و البيان
1- النهي عن سوء الظن وتحريمه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أي يا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فيشمل بعض الظن، وهو أن يظن بأهل الخير سوءا، وهذا هو الظن القبيح، وهو متعلق بمن ظاهره الصلاح والخير والأمانة.
أما أهل السوء والفسوق المجاهرون بالفجور، كمن يسكر علانية أو يصاحب الفاجرات، فيجوز ظن السوء به لتجنبه والتحذير من سلوكه، دون تكلم عليه، فإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم.
ثم علل اللَّه تعالى النهي بأن بعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير، أو ظن الشر بالمؤمن ذنب مؤثم أي موقع في الإثم، لنهي اللَّه عنه، كما قال تعالى:
وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ، وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح 48/ 12] أي هلكى.
وقد وردت أحاديث كثيرة في تحريم سوء الظن بالمؤمن، منها
ما رواه ابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال: رأيت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند اللَّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه، وأن يظن به إلا خيرا» .
قال ابن عباس في الآية: نهى اللَّه المؤمن أن يظن بالمؤمن إلا خيرا.
ومنها
ما رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا» .
وفي رواية أخرى لمسلم والترمذي: «لا تقاطعوا ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد اللَّه إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»
والتدابر: الهجر والقطيعة.
5- تحريم التجسس:
وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتستكشفوا ما ستروه، وتستطلعوا أسرارهم، فالتجسس: البحث عما هو مكتوم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم. أما التجسس: فهو البحث عن الأخبار، والاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون، أو يتسمع على أبوابهم.
أخرج أبو داود وغيره عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين، فضحه اللَّه في قعر بيته» .
وأخرج الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ثلاث لازمات لأمتي: الطّيرة «1» والحسد وسوء الظن، فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول اللَّه ممن هن فيه؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إذا حسدت فاستغفر اللَّه، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيّرت فامض» .
وأخرج أبو داود أيضا عن أبي أمامة وآخرين من الصحابة رضي اللَّه عنهم عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة من الناس أفسدهم» .
قال أبو قلابة: حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إن هذا لا يحل لك، قد نهاك اللَّه عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
6- تحريم الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره:
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي لا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يكره، سواء أكان الذكر صراحة أم إشارة أم نحو ذلك، لما فيه من الأذى بالمغتاب. وهو يتناول كل ما يكره، سواء في دينه أو دنياه، في خلقه أو خلقه، في ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو لباسه ونحو ذلك.
وقد فسر النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم الغيبة فيما رواه أبو داود والترمذي وابن جرير عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه ما الغيبة؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه»
أي فإن كان الوصف موجودا فيه فهو الغيبة، وإن كان مفترى والمغتاب خال من ذلك، فذلك هو البهتان.
وروى أبو داود أيضا عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم:
حسبك من صفية كذا وكذا- أي قصيرة- فقال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»
قال معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت: هذا أقطع كان غيبة.
ثم شبّه اللَّه تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو أيحب أحدكم أن يتناول لحم أخيه بعد موته؟ فكما كرهتم هذا، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائبا، فإنه تعالى مثّل الغيبة بأكل جثة الإنسان الميت، وهذا من التنفير، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية، فضلا عن كونه محرّما شرعا، وفي الآية أنواع من المبالغات: منها الاستفهام للتقرير ومحبة المكروه، وإسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ للإشعار بأن لا أحد يحب ذلك، وتقييد المكروه بأكل لحم الإنسان، وتقييد الإنسان بالأخ، وجعل الأخ أو اللحم ميتا، فيه مزيد تنفير للطبع.
وهذا دليل على تحريم الغيبة وعلى قبحها شرعا، لذا كانت الغيبة محرّمة بالإجماع وعلى المغتاب التوبة إلى اللَّه والاستحلال ممن اغتابه، ولا يستثني من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة،
كقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر فيما رواه البخاري عن عائشة: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة» .
وكقوله صلّى اللَّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيس رضي اللَّه عنها، وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له» «1» .
وتحريم الغيبة مرتبط بحماية الكرامة الإنسانية، ثبت في الأحاديث الصحيحة من غير وجه
أنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال في خطبة حجة الوداع فيما رواه الشيخان عن أبي بكرة: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» .
وروى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كل المسلم على المسلم حرام: ماله وعرضه ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم» .
وروى أبو داود أيضا عن أبي بردة البلوي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم، فإن من يتبع عوراتهم يتبع اللَّه عورته، ومن يتبع اللَّه عورته، يفضحه في بيته» .
وَاتَّقُوا اللَّهَ، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي واتقوا اللَّه فيما أمركم به ونهاكم عنه، فراقبوه في ذلك واخشوا منه، وأكرهوا الغيبة وتباعدوا عنها، إن اللَّه تواب على من تاب إليه، رحيم بمن رجع إليه واعتمد عليه.
قال جمهور العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، وأن يعزم على ألا يعود، ويندم على ما فعل، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك، ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذن أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك، كما
روى الإمام أحمد وأبو داود عن معاذ بن أنس الجهني رضي اللَّه عنه عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه، بعث اللَّه تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه، حبسه اللَّه تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» .
7- المساواة بين الناس في الأصل والمنشأ، والتفاضل بالتقوى:
يا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ كان النداء السابق لأهل الإيمان لتأديبهم بالأخلاق الفاضلة، ونادى هنا بصفة الناس الذي هو اسم الجنس الإنساني، ليناسب بيان المطلوب، ويؤكد ما نهى عنه سابقا، وليعمم الخطاب للناس جميعا منعا من السخرية واللمز وغير ذلك على الإطلاق، فقال:
يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية.
والمعنى: أيها البشر، إنا خلقناكم جميعا من أصل واحد، من نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، ويجمعكم أب واحد وأم واحدة، فلا موضع للتفاخر بالأنساب، فالكل سواء، ولا يصح أن يسخر بعضكم من بعض، ويلمز بعضكم بعضا، وأنتم إخوة في النسب.
وقد جعلناكم شعوبا (أمة كبيرة تجمع قبائل) وقبائل دونها لتتعارفوا لا لتتناكروا وتتحالفوا، والمقصود أن اللَّه سبحانه خلقكم لأجل التعارف، لا للتفاخر بالأنساب.
وإن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى، فمن اتصف بها كان هو الأكرم والأشرف والأفضل، فدعوا التفاخر، إن اللَّه عليم بكم وبأعمالكم، خبير ببواطنكم وأحوالكم وأموركم. والآية دليل للمالكية الذين لم يشترطوا الكفاءة في الزواج، سوى الدين، لقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ.
وقد وردت أحاديث صحاح كثيرة، منها ما رواه أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على اللَّه تعالى من الجعلان» .
وروى ابن أبي حاتم والترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: طاف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده، فما وجد لها مناخا في المسجد، حتى نزل صلّى اللَّه عليه وسلّم على أيدي الرجال، فخرج بها إلى بطن المسيل، فأنيخت، ثم إن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم خطبهم على راحلته، فحمد اللَّه تعالى، وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال:
«يا أيها الناس، إن اللَّه تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها، فالناس رجلان: رجل برّ تقي كريم على اللَّه تعالى، ورجل فاجر شقي هيّن على اللَّه تعالى، إن اللَّه عز وجل يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ثم قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: أقول قولي هذا، وأستغفر اللَّه لي ولكم» «1» .
وروى الطبري في آداب النفوس قال: «خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال:
يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، ألا هل بلّغت؟ قالوا: نعم، قال: فليبلّغ الشاهد الغائب» . وقد تقدم ذكر حديث مسلم وابن ماجه عن أبي هريرة: «إن اللَّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»
وعند الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنّن اللَّه عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم» .

فقه الحياة و الأحكام
1- كذلك حرّم اللَّه سبحانه بدلالة النهي أيضا في الآية الثانية ثلاثة أشياء:
هي سوء الظن بأهل الخير والصلاح والإيمان، والتجسس، والغيبة.
والظن أنواع «1» :
الأول- ظن واجب أو مأمور به: كحسن الظن بالله تعالى وبالمؤمنين، كما
جاء في الحديث القدسي فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أنا عند ظن عبدي بي»
وقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم فيما رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه عن جابر: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله»
وقال أيضا فيما رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة: «حسن الظن من حسن العبادة»
ومثل قبول شهادة العدول، وتحري القبلة، وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات غير المقدرة شرعا.
الثاني- ظن محظور أو حرام: كسوء الظن بالله، وبأهل الصلاح، وبالمسلمين مستوري الحال، ظاهري العدالة،
قال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه حرم من المسلم دمه وعرضه، وأن يظنّ به ظنّ السوء» ذكره القرطبي والألوسي
،
وقال أيضا عن عائشة مرفوعا: «من أساء بأخيه الظن فقد أساء الظن بربه، إن اللَّه تعالى يقول: اجتنبوا كثيرا من الظن» .
روى أبو داود عن صفية قالت: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم معتكفا. فأتيته أزوره ليلا، فحدثته وقمت، فانقلبت فقام معي ليقلبني «2» ، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم أسرعا، فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: على رسلكما، إنها صفية بنت حييّ، قالا: سبحان اللَّه، يا رسول اللَّه! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو سوءا» «1» .
أما من يجاهر بالخبائث أو يتعاطى الريب، فلا يحرم إساءة الظن به، فليس الناس أحرص منه على نفسه، وقد أمر اللَّه أن يتجنب الإنسان مواضع الريبة ومواقف التهم.
الثالث- ظن مندوب إليه: كإحسان الظن بالأخ المسلم، وإساءة الظن إذا كان المظنون به ظاهر الفسق،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «من الحزم سوء الظن»
وقال أيضا فيما رواه الطبراني في الأوسط وابن عدي عن أنس، وهو ضعيف: «احترسوا من الناس بسوء الظن» .
فإذا كان الظن لاتقاء الشر ولا يتعدى إلى الغير، فهو من هذا النوع، محمود غير مذموم، وعليه يحمل هذان الحديثان، وما جاء في الحكم:
«حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة» .
وحرمة سوء الظن بالناس: إنما تكون إذا كان لسوء الظن أثر يتعدى إلى الغير.
الرابع- ظن مباح: كالظن في استنباط الأحكام الشرعية الفرعية العملية بالاجتهاد، والعمل بغالب الظن في الشك في الصلاة، كم صلّى ثلاثا أو أربعا.
وأما التجسس فهو من الكبائر وهو البحث عن الأمور المكتومة أو السرية، ومنه الجاسوس، وكذلك التحسس وهو الاستماع لحديث القوم وهم له كارهون حرام أيضا، لكنه قد يستعمل في البحث عن الخير، كما قال تعالى: فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف 12/ 87] .
والغيبة أيضا حرام، وهي من الكبائر بالإجماع كما ذكر القرطبي، وأن من اغتاب أحدا عليه أن يتوب إلى اللَّه عز وجل، مع استحلال المغتاب في رأي جماعة، ودون استحلاله في رأي آخرين كما تقدم.
والفرق بين الغيبة والإفك والبهتان: أن الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه، والإفك: أن تقول فيه ما بلغك عنه، والبهتان: أن تقول فيه ما ليس فيه. واللَّه تعالى نفرّ من الغيبة أشد تنفير، مشبها الاغتياب بأكل لحم الإنسان ميتا.
وقد ذكر العلماء أشياء ليس لها حكم الغيبة، فالغيبة لا تحرم إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا به وهي ستة أمور «1» :
الأول- التظلم: فلمن ظلم تقديم شكوى للحاكم لإزالة ظلمه،
لحديث أخرجه البخاري والترمذي عن أبي هريرة: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا»
وحديث أخرجه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «مطل الغني ظلم» أو «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الشريد.
الثاني- الاستعانة على تغيير المنكر: بأن يذكره لمن يظن قدرته على تغييره، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء 4/ 148] .
الثالث- الاستفتاء: كأن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فما طريق الوصول إلى حقي؟
لقول هند للنبي صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث المتفق عليه عن عائشة:
«إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: نعم فخذي» .
الرابع- التحذير من الفسّاق: فلا غيبة لفاسق فاجر كمدمن خمر وارتياد أماكن الفجور،
للحديث الذي رواه الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عدي عن بهز بن حكيم: «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»
وفي رواية للبيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له، واتقوا اللَّه فيما نهاكم، وتوبوا فيما وجد منكم» «1» .
الخامس- التحذير من سر عام: كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمفتين مع عدم الأهلية، ونصح الخاطب والشريك ونحو ذلك.
السادس- التعريف بلقب مشهور إذا لم تمكن المعرفة بغيره، كالأعور والأعمش والأعرج. وصنف القرافي ما استثناه العلماء من الغيبة المحرمة وهي ست صور كما يلي: النصيحة، والتجريح والتعديل في الشهود، والمعلن بالفسوق، وأرباب البدع والتصانيف المضلة، ينبغي أن يشهر الناس فسادها وعيبها، والعلم السابق بالمغتاب به بين المغتاب والمغتاب عنده، والدعوى عند ولاة الأمور «2» .
3- ذكرت الآية الثالثة ثلاثة أشياء: المساواة، وتعارف المجتمع الإنساني، وحصر التفاضل بالتقوى والعمل الصالح.
أما المساواة: فالناس سواسية كأسنان المشط في الأصل والمنشأ الإنساني، فهم من أب وأم واحدة، وفي الحقوق والواجبات التشريعية، وهذه أصول الديمقراطية الحقة.
وقد أبان اللَّه أنه خلق الخلق من الذكر والأنثى، ولو شاء لخلقه من غيرهما كخلقه لآدم، أو دون ذكر كخلقه لعيسى عليه السلام، أو دون أنثى كخلقه حواء، أو دون أب كخلقه عيسى عليه السلام.
وأما التعارف: فإن اللَّه خلق الخلق أنسابا وأصهارا، وقبائل وشعوبا من أجل التعارف والتواصل والتعاون، لا للتناكر والتقاطع، والمعاداة واللمز والسخرية والغيبة المؤدية إلى التنازع والعداوة، ولا للتفاخر بالأنساب والأعراق والأصول، فكل ذلك اعتبارات وهمية مصطنعة تتعارض مع وحدة الأصل والمنشأ الإنساني.
وأما التقوى: فهي ميزان التفاضل بين الناس، فالأكرم عند اللَّه، الأرفع منزلة لديه تعالى في الدنيا والآخرة هو الأتقى الأصلح لنفسه وللجماعة، فإن حدث تفاخر فليكن بالتقوى التي هي التزام المأمورات واجتناب المنهيات.
أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «الحسب المال، والكرم التقوى»
وفي حديث آخر: «من أحب أن يكون أكرم الناس، فليتق اللَّه» .
وعن أبي هريرة عن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم: «إن اللَّه تعالى يقول يوم القيامة: إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، وأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع وأنسابكم، أين المتقون، أين المتقون؟!» .
وروى الطبري من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن أوليائي المتقون يوم القيامة، وإن كان نسب أقرب من نسب، يأتي الناس بالأعمال، وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم، تقولون: يا محمد، فأقول: هكذا وهكذا»
وأعرض في كل عطفيه.
4- احتج مالك بآية إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى على عدم اشتراط النسب في الكفاءة في الزواج إلا الدين، فيجوز زواج الموالي بالعربية، وقد تزوج سالم مولى امرأة من الأنصار هندا بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وتزوج بلال أخت عبد الرحمن بن عوف، وتزوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، فالكفاءة إنما تراعى في الدّين فقط.
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم في الحديث الذي رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) : «تنكح المرأة لما لها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدّين، تربت يداك» .
وقال الجمهور: يراعى الحسب والمال، عملا بالأعراف، ومراعاة لواقع الحياة المعيشية، وتحقيقا لهدف الزواج وهو الدوام والاستقرار.

من أحكام سوء الظن والغيبة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فأعتقد أنه قد تقدم الكلام في هذه الآية الكريمة، وبقي التنبيه على جانب من جوانب دلالتها.
يقول المولى سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] ، أي: ابتعدوا عن كثير من الظن، والمفهوم أنه قد يجوز بعض الظن.
ثم يبين سبحانه وتعالى السبب في اجتناب كثير من الظن فقال: (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) فلا يمكن اليقين إلا بترك الأكثر.

وجوب اجتناب كثير من الظن
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] فلو قال: اجتنبوا بعضاً من الظن لكان هناك حرج؛ لأننا لا نستطيع أن نحدد كيف يكون الاجتناب، لكن إذا اجتنبنا كثيراً من الظن تأكدنا من أننا اجتنبنا بعض الظن الذي فيه إثم، وهذه فيها القاعدة الأصولية: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولهذا نرى الفقهاء في مواطن التحديد في العبادات يطلبون الزيادة عن الحد للتأكد من استيعاب المحدود، فمثلاً: في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] ، يقولون: حد الوجه من منبت الشعر طولاً من الجبهة إلى أسفل الذقن، لكن يقولون: ينبغي أن يزيد في منبت الشعر جزءاً بحيث أنه يتأكد بأنه استوعب الوجه كله، وكذلك في صوم رمضان في قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] ، يقول الفقهاء: ينبغي أن يمسك قبل أن يتبين ولو بلحظات ليتأكد أن إمساكه وقع في جزء من الليل، وأن كامل النهار سلم من أن يأكل أو يشرب فيه، {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، يكون إتمام الصيام إلى ما بعد نقطة الصفر من غروب الشمس، ليتأكد أنه استوعب النهار كاملاً بالإمساك، أما إذا جاء عند نقطة الصفر بالذات يمكن أن يكون أخذ جزءاً من النهار في أكله وشربه، فيكون ذلك إبطالاً لصيامه، لذلك لا يتم الصيام الواجب إلا بإتمامه وهو أخذ جزء من آخر الليل من الصباح، وأخذ جزء من أول الليل عند الغروب ليتأكد؛ لأن ذلك مما لا يتم الواجب إلا به، وهذه الآية الكريمة تدل على ذلك: اجتنبوا الكثير؛ لأن القليل إثم، ولا نستطيع أن نتجنب القليل إلا إذا تجنبنا ما هو أكثر منه، حتى نتأكد أننا استوعبنا القليل الذي فيه الإثم.

الفرق بين الظن والشك
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] .
إشارة إلى أن المسلم لا يحق له أن يتجسس على أخيه المسلم، وأشرنا إلى الترتيب الطبيعي في ترتيب هذا الأسلوب حتى وإن رأيت من إنسان قرائن من سماع أو إشاعات، وكما سأل الأخ: ما الفرق بين الظن والشك؟ وقلنا: إن الشك وجود معرفة على وجهين متناقضين في كفتي ميزان متعادل، ويمثل علماء المنطق لذلك: إذا رأيت شخصاً من بعيد فلا تستطيع أن تجزم أكان رجلاً أو امرأة، وإن تأملت قلت: هذا رجل، وإن رجعت مرة أخرى قلت: هذه امرأة، فلم تستطع الجزم بذلك والكفتان بين الرجل والمرأة متعادلتان سواء، في هذه الحالة يكون إدراكك للشاخص شك لأنك لم ترجح أحد الجانبين، فإذا تعادل طرفا العلم بمعلوم فإن هذا العلم شك، ولكن إذا دنا الشاخص منك قليلاً ثم تبين لك أنه رجل، وأصبح عندك عشرة في المائة ترجح أنه رجل؛ حينئذ هذا الجانب الذي رجح ونزلت كفته عشرة في المائة يعتبر ظناً، والكفة المرجوحة التي نقص الإدراك فيها عشرة في المائة يعتبر وهماً، فالظن أحد الجانبين الذي رجح بعد أن كان شكاً متعادلاً، فإذا انتهى الوهم، وكان العلم لجانب واحد، بأن دنا منك ورأيته بملابسه وتأكدت (99%) ونصف أنه رجل، والنصف الباقي احتمال أن تكون امرأة تلبس ملابس الرجل، لكن تأكد عندك أنه رجل، حين ذلك يكون علماً، والعلم مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فعلم اليقين الذي لا يقبل وهماً يطرأ عليه، ويمثلون بأن مسلمي روسيا أو واشنطن يتوجهون في صلاتهم إلى الكعبة، فهو يعتقد ويعلم بوجود الكعبة، فإذا قدر لهذا الإنسان أن جاء إلى مكة ووصل إلى المسجد الحرام ووقف عند الباب، ورأى البنية في وسط المسجد، فقال: ما هذه؟ قيل له: الكعبة، فهل يكون علمه وهو واقف في باب المسجد كعلمه وهو في بلده؟ لا.
فعلمه علمه بها وهو يراها بعينه أقوى من علمه بها وهو في بلده، ثم جاء وطاف حولها زاد علماً، ثم فتحت الكعبة ودخل الناس ودخل معهم وصلى في جوف الكعبة، فعلمه بالكعبة هو في جوفها أقوى من علمه وهو واقف في الباب، هذا هو حق اليقين.

ما يجب على المحتسب تجاه الظن السيء
{اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ} وهو الوهم؛ لأنه لم يتمحض في باب العلم الحقيقي.
إذاً: لم يجتنبه، وأراد أن يمضي في الوهم، وأن ينتقل من الظن إلى العلم فذهب يتجسس، فوجد شيئاً أو ارتاب، عندها نجد أن القرآن ينهى عن التجسس، والسنة النبوية أيضاً نهت عن التجسس، (ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً.
وكونوا عباد الله إخوانا) .
وننبه هنا على نقطة مهمة جداً، وهي: ما يختص بالإخوان الذين يرون في أنفسهم الأهلية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الذين نصبوا من طرف الإمام، والذين يقال لهم: أهل الحسبة، فالآمر والناهي إما محتسب -أي: منصب من جانب الإمام- وله سلطة من طرف الإمام، أو متطوع متبرع: (من رأى منكم منكراً فليغيره) ، وإذا ما أشيع عنده أو وقع عنده ظن ببيت فيه ما ينبغي الإنكار عليه لا يحق له شرعاً أن يذهب يتجسس ليتحقق من هذا الظن؛ لأن الله نهاه عن التجسس، كما يروي مالك في الموطأ: (من ابتلي بشيء من هذه القاذورات؛ فليستتر بستر الله، فمن أبدى لنا صفحته أخذناه بها) ، ويقول مجاهد رحمه الله: (خذوا ما ظهر لكم، واتركوا ما ستر الله عليه) .
وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا أتاه، وقال: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، قال: (نهينا عن التجسس، إن يبدي لنا صفحته أخذناه بها) .
وجاء عن كاتب عقبة بن عامر أنه قال له: (إن لنا جيراناً يشربون الخمر، وأنا ذاهب بالشرط ليأخذونهم، قال: لا تفعل وارجع وعظهم وانصحم وتهددهم، ولا تبلغ أمرهم إلى الشرط، فرجع ووعظهم وزجرهم، ثم رجع وقال: فعلت ولم ينتهوا، فإني ذاهب أستدعي لهم الشرط يأخذونهم، قال: لا تفعل، سمعت رسول الله يقول: (من ستر على مسلم خبأة -يعني: عيباً- كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ، هذا الحديث يذكره علماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلماء الحسبة والدعوة، ويذكره الخطيب البغدادي في الرحلة في طلب العلم، قال: إن أبا أيوب الأنصاري أخذ راحلته وذهب إلى مصر حتى أتى إلى الفسطاط، وجد محمد بن مسلمة وهو الأمير عليهم، قال: أين بيت عقبة؟ قال: ما الذي جاء بك أزائرا أم لحاجة؟ قال: جئت لحاجة عنده، أرسل معي من يدلني على بيته، فذهب إليه فرأى عقبة -وهذا أنصاري، وأبو أيوب أنصاري- فقال له: إن أبا أيوب الأنصاري في الباب، فأسرع إليه ولقيه وعانقه وقال له: ما أتى بك يا أبا أيوب؟ قال: جئت لأسمع منك حديثاً، لم يبق أحد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، فأردت أن أتثبت منه.
وانظروا: الهمة في طلب العلم: يرحل إلى القاهرة على بعيره في الصحراء، من أجل أن يسمع حديثاً كان قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وطال عليه العهد، وأراد أن يتثبته ممن سمعه معه وهو عقبة بن عامر - قال: جئت لحديث لم يبق أحد ممن سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنا وأنت، وهو فيمن ستر على مسلم، قال: نعم.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مسلم في الدنيا - وقد جاءت له ألفاظ متعددة- ستره الله يوم القيامة، أو كان كمن أحيا موءودة من قبرها) ثم قال له: السلام عليك، ورجع إلى راحلته، وما أدرك أبو أيوب إلا في عريش مصر.
هكذا يقول الخطيب البغدادي في كتاب رحلة طلب العلم، ونحن نسمعكم لفتة بسيطة في طلب العلم، ونستطيع أن نقول: إن البعثات للدراسات الغير موجودة في البلد لا بأس بها ,وهذا أصل فيها، وهو أن نرحل لطلب العلم الغير موجود عندنا إذا كانت هناك خصوصيات أو اختصاصات والبلد بحاجة إليها وهي غير موجودة في بلد الإنسان فله أن يرحل إليها، ولكن هل إذا ذهب ليدرس يسترخي ويطمئن إلى الحياة هناك ويترك بلده ومهمته التي سافر من أجلها ويسكن في تلك البلاد؟ أو أنه يؤدي المهمة ويحصل على العلم الذي بعث له ويرجع به إلى بلده فينفع أهل بلده؟ هكذا أبو أيوب بعد ما سمع الحديث رجع إلى راحلته، وقال: جئت لقضاء حاجة وانتهت.
ويهمنا في هذا الحديث: (من ستر مسلماً) ويتفقون على روايات عن عمر كما جاء عن الزبير قال: (حرست أنا وعمر ليلة -وعمر رضي الله عنه كان يعس ليلاًَ في المدينة ويتسمع الأخبار، ويتعرف على حال الناس في الليل، وقد يتصدق بدون أن يعلم به أحد، وقد يعرف أخبار الناس- فقال عمر: هذا بيت فلان -سماه- مجافىً عليهم الباب، وهناك سراج ولغط وشرب فما ترى؟ فقال له الزبير: أرانا يا أمير المؤمنين أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله عن التجسس وقد تجسسنا، قال: فتركهم عمر وانصرف) .
وعلى كل فإن الآمر النهي بالمعروف له ما ظهر وليس من حقه أن يتتبع بالتجسس فيفسد أحوال الناس ما دام الأمر مستتراً، بخلاف ما إذا ظهرت آثاره بأصوات أو روائح.
إلخ؛ حينئذٍ لم يبق حيز الاستتار، فوجب تغييره لمن استطاع ذلك.

تحذير الإسلام من الغيبة
{وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} ، تقدم البيان بأن الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره ولو كان فيه، كما بين صلى الله عليه وسلم: (إن كان ما ذكرته فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته) ، والبهتان شيء عظيم، وبين المولى سبحانه صورة عملية مثالية، فقال: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ} ألا تكرهونه، وأحدكم هنا فرد يعم الجميع على سبيل البدل -أي: كل واحد من المجموعة- أن يأكل لحم أخيه ميتاً حتى لو كان حياً يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه.
وأشرنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين ذكرا ماعزاً لما اعترف ورجم فقالا: (لم يرض بستر الله عليه حتى جاء واعترف حتى رجم رجم الكلب) ، سمعها صلى الله عليه وسلم، فسكت حتى مر بتيس أسك أو بحمار قد انتفخ فقال: (فلان وفلان! قالا: نعم يا رسول الله، قال: انزلا فكلا من هذه الميتة، قالا: يرحمك الله يا رسول الله، أتؤكل هذه الجيفة؟ -استعظما الأمر- قال: والذي نفسي بيده، للذي قلتما في أخيكم -أي: ماعز - أشد من أكلكما هذه الجيفة، والله إنه الآن ليرتع في بحبوحة الجنة) .
لا ينبغي للإنسان أن يغتاب أخاه سواء كان عن عيب نشأ عن تجسس أو عن أمر ابتدائي، ومهما كان الأمر ولو كان إشارة باليد، كما جاء عن صفية رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واقفاً مع إحدى نسائه فمرت من أمامهما صفية، فقالت: ما يعجبك منها؟ يكفيك أنها وأشارت بيدها -يعني: أنها قصير- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والله لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ، والتعبير هنا بماء البحر دون ماء النهر لأن ماء النهر عذب، وأقل شيء يؤثر فيه، وماء البحر مالح لا يتأثر إلا بشيء غلب عليه، وكما يقولون: الماء المخلوط بالملح أو السكر يمنع أن يتشرب ما يدخل عليه من بكتيريا وغيره، فمثل بالبحر لبعد تأثره بما يقع فيه: (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) فكيف بأكبر من ذلك: (فكرهتموه) ؟!
بيان عظم رحمة الله ومغفرته
قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] ، اتقوا الله: أي اتخذوا منه الوقاية بتلك الأمور التي من أولها: (لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ) و (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) و (وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ) ، لا تظنوا السوء بالناس، لا تجسسوا، لا يغتب بعضكم بعضاً، وتوبوا إلى الله من هذا كله، فاتقوا الله وخذوا الوقاية من عذاب الله، وقد أشرنا أن قوله: {إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} ، يصح أن ترجع للمغتاب والذي وقعت عليه الغيبة، أو المتجسس والمتجسس عليه، أو الظان والمظنون فيه.
أنت تسخر منه لماذا؟ لضعفه.
أنت تظن به السوء لماذا؟ لأنك تنقصته بما سمعت عنه.
أنت تتجسس عليه لماذا؟ لتصل إلى نقص العلم الذي عندك لتكمله؛ فإذا كان الأمر كذلك والمولى سبحانه تواب رحيم فقد يتوب على ذلك الذي سخرت منه بسبب ما يوجد فيه، سخرت منه لمعصية، قد يتوب الله عليه.
فإذا كان المولى يتوب عليه وتأتي أنت وتعاقبه، فلا حق لك في هذا، وترجع أيضاً للفاعل (توبوا) فالله تواب يقبل توبة التائبين عن كل هذه الآفات الأخلاقية أو الدينية، فـ: (تَوَّابٌ رَحِيمٌ) ، يصح أن ترجع للمتنقص أمره والمتنقص الذي ارتكب تلك الآفات والآثام، والله تواب يقبل التوبة من عباده رحيم يكرم من تاب عليه بواسع رحمته، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] ، وقصة الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل إنساناً عابداً جاهلاً، ثم أفتاه بعدم قبول توبته، فقتله وكمل به المائة -وهذه نتيجة الفتوى بغير علم- ثم عندما سأل عالماً قال له: إن تبت إلى الله فإنه يقبل توبتك -وهذا هو الفقه- ولكن أرى أن تخرج من هذه البلدة التي ارتكبت فيها تلك الآفات إلى بلدة أخرى فيها أناس صالحون يعبدون الله فتعبد الله معهم -وهذه نتيجة الجليس الصالح- فخرج تائباً إلى الله، فمات في نصف الطريق، اختصمت فيه الملائكة، والله سبحانه حكم بينهما، وقال: قيسوا الأرض التي خرج منها والأرض التي ذهب إليها، وانظروا إلى أيهما أقرب، وفي بعض الروايات: بأن الله زوى الأرض التي هو خارج إليها فكانت المسافة أقصر، فأخذته ملائكة الرحمة بحنوط إلى الجنة.
إذاً: لا ينبغي لإنسان أن يقنط من رحمة الله، ولا أن يعرض عن باب التوبة إلى الله ولو تكرر منه الذنب مراراً، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، ولو أنه ارتكب ما ارتكب ثم رجع بعزيمة صادقة من الذنوب ثم رجع بصدق، وتاب توبة، ثم رجع إلى الذنوب مرة أخرى، فرجع فتاب مرة أخرى وتاب نفس التوبة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه في كل مرة ما دام يفعل ذلك.
ثم في قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12] صيغة مبالغة.
يعني: كثير التوبة على عباده واسع الرحمة بهم، والفرق بين الرحمان والرحيم: أن رحمان اسم فاعل، ورحيم صيغة مبالغة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الله قسم رحمته مائة جزء، فأنزل جزءاً من تلك المائة إلى الأرض بها تتراحمون، وبها ترفع الدابة حافرها أن تضعه على ولدها رحمة به، وادخر تسعة وتسعين رحمة لرحمة العباد يوم القيامة) ، ولذا يقول العلماء: رحمان الدنيا ورحيم الآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

هناك تعليق واحد:

  1. حلقة اليوم الخامس من المعتكف الرمضاني للأستاذة منال الأسيوطي..
    بدأت المحاضرة بتلخيص الأداب المستخلصة من النداءات الأولي في سورة الحجرات و هي 1.التأدب مع رب العالمين و الأدب مع رسوله عليه صلاة و السلام.
    2.ان النداء للمؤمنين لإستمالة القلوب الخاضعة المطيعة المنتفعة بالنداء الملبية له.
    3.المسلم الغير ملتزم بخلق الاسلام و لا تعليماته قد يصل إلي الفسق.
    4.آداب عامة للمجتمع بعضه مع بعض.
    المطلوب من هذا المعتكف أن نصبح قدوة لكل الأمم و مثل يحتزي به.
    ثم انتقلت الاستاذة الي نداء اليوم يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن.....
    و بدأت بأسباب النزول و انه زعم انه بسبب الصحابي الجليل سلمان الفارسي.....
    سؤال...هل نظن بالآخرين؟
    نعم كثيرا.
    إذا ما السبب....
    في البداية يجب نظرة إلي نفسي الإعتراف بموقعي و تقصيري و عدم تلبيتي للنداء باجتناب الظن و لماذا لا استطيع التطبيق حتي و لو مع اقرب الناس إلي ....أمي.
    إن الظن قد يتسبب في العديد من المشاكل في الأسرة و المجتمع ..فالإنسان ليس لديه أدني شك من محبة أمه له و مع ذلك يقع الخلاف لمجرد الظن و الفهم الخاطيء.
    تناولت أيضا ترتيب التعامل مع كلام رب العالمين ...
    القراءة و الفهم للتطبيق و من أهميته أحفظه.
    تحدثت الأستاذة عن النداء الأخير في السورة و هو لعامة الناس و قالت ان سبب النزول عندما صعد سيدنا بلال رضي الله عنه الي الكعبة ليؤذن يوم فتح مكة فاستنكر بعضهم اختيار الرسول له ...
    فنحن نقيم البشر بمعايرنا المختلفة و لكن رب البشر له معايير مختلفة للاصطفاء ..
    الطبيعة البشرية لاتقبل اي اسلوب مختلف عن هويتها حتي و لو كان شيخ يقرأ بقراءة مختلفة ليس عندنا سعة الصدر لتلقي و تعلم ما هو جديد و لكن الشطارة التعلم من كل الناس.
    ثم رجعت مرة أخري الأستاذة عن الظن و أنواعه و آثره في المجتمع و الأسرة ..فقالت
    ان الظن قد يكون إما..ظن السوء بأهل الخير
    أو ظن الشر بالمؤمن
    و في كلا الحالتين ذم الله الظن و ذكره عز و جل علي إنه إثم و شبه الظن بالأرض البور التي ليس بها خير فامرنا بالاجتماب الكامل له عن طريق نداء ليبين لنا أهمية الأمر.
    و من الآثار المترتبة علي الظن
    الظن بالأولاد بتهز ثقتهم بأنفسهم و تجرأهم علي الخطأ يوجد فرق كبير بين الحرص و الظن.
    ثم سردت قصة جميلة بين زوجين حدث بينهم خلاف و اصرت الزوجة علي الطلاق فغضب الزوج و كتب بعض الكلمات في رسالة مطوية تركها للزوجه و غادر المنزل ...سكتت الزوجة قليلا و ندمت كثيرا و بدأت في التفكير في تابعيات هذا الطلاق فقررت الاعتذار و الانكسار امام زوجها و الاعتراف بتسرعها في طلب الطلاق و بالفعل عند حصور زوجها قامت و اعتذرت و بدت ندمها ..فتبسم الزوج و طلب منها فتح رسالته و اذ بها كلمات رقيقة تعبر عن حبه لها و اهميتها في حياته..
    المواقف كثيرة في الحياة و الامثله عده للظن الذي قد يصدع الأسرة و المجتمع و يتسبب في تصدع الامة كلها.
    القرآن شفاء إذا طبقناه علي أنفسنا و لم اتخذه حجة فقط علي الاخرين و احكم به علي من حولي دون النظر الي نفسي.
    ثم ذكرت بعض الأحاديث التي تنهي عن الظن ....
    ثم ذكرت العلاج و الخطوات التي يجب ان اتبعها لاتجنب الظن
    اولا ان اكون مؤمن
    ثانيا ان اطبق النداء
    ثالثا يكون الحفظ من رب العزة
    كان هناك احد طلاب العلم قبل ان يدخل الي المسجد يدع ربه قائلا اللهم اخف عني عيب شيخي ...خلق.
    الدين الإسلامي كله خلق لا يوجد عبادة بدون خلق..
    و لكن الآفة الأساسية في مجتماعتنا ان من عنده بعض الخلق يضع عينه علي الآخر و لا يتهم نفسه ابدا بالتقصير.
    ثم تكلمت الاستاذة عن خلق الحسد و انه بمنتهي البساطة عدم رضا عن حكمة رب العالمين في توزيع الارزاق بمعني ان الخلق السيء قد يؤدي الي عدم الايمان باسماء الله و صفاته .
    كما تترقت للحب في الله و ان الحب في غير الله عذاب .
    الله ولي النعم الذي يهب بدون استحقاق بغير حساب يجب ان احبه و احب فيه نعمه
    فالزوج نعمة من رب العالمين فيجب ان احبه في الله و اولادي و امي ...
    فرق كبير بين ان احب امي في الله و بر مني لانه امر الاهي و ان احبها من اجلها و من اجل الناس.
    فلنطلع علي قلوبنا و نخلص النية و الرجوع الي الله ولي النعم خالقنا و مدبر لنا امرنا و لنتقه .

    ردحذف