السبت، 20 يونيو 2015

النداء الثاني: في وجوب الأدب مع رسول الله حتى لا يتعرض المؤمن لبطلان عمله فيهلك

الآيتان 2 ، 3 من سورة الحجرات
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} .
الشرح:
اعلم أيها القارئ الكريم أن سبب نزول هذا النداء هو سبب نزول النداء الذي قبله، وهو ما حدث بين الشيخين رضى الله عنهما، حيث تنازع على أمر تعيين إمارة وفد بنى تميم؛ إذ رأى أبو بكر تعيين القعقاع بن معبد، ورأى عمر تعيين الأقرع بن حابس، فاختلفا وتنازعا حتى ارتفعت أصواتهما فوق صوت رسول الله صلى الله عليه و سلم ، ففي هذا النداء الإلهي العظيم ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن رفع أصواتهم أمام رسول الله، وفوق صوت رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تحدثوا معه، وهذا الأدب واجب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذه الآية الكريمة وهو أدب ينبغى للمؤمن أن يتحلى به، لأن رفع الصوت بلا حاجة من سوء الآداب وهبوط الأخلاق، واذكر قول لقمان لابنه وهو يعظه إذ قال له: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُض مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
فلنتأمل هذه الوصية اللقمانية الربانية فإنها اشتملت على مكارم الأخلاق وأشرف الآداب، بعد أوجب الواجبات: إنها مراقبة الله، والخوف منه، والحياء إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة من أقوالنا وأعمالنا، والأمر بإقام الصلاة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصبر على الأذى في ذلك، وحرمة الكبر والتكبر علي الناس، والاختيال في المشي وإظهار المرح والزهو بين المؤمنين، ثم الاقتصاد في المشي وهو أن يسرع في مشيه بقدر الحاجة التي هو ذاهب إليها، وأخيرا خفض الصوت وغضه حتى لا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع من يخاطبه، هذا مع عامة الناس، أما مع الوالدين والمربين والمعلمين فهو من أوجب الواجبات.

النداء الثاني في الآية الثانية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] .
في الآية الأولى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ، فوصفه صلى الله عليه و سلم بالرسالة، وفي الآية الثانية وصفه بالنبوة: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] .
والحكمة أنه في الموقف الأول عُطِف الرسول على الله سبحانه وتعالى في مجال التشريع وهو منهل واحد، لأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأخذ عن الله، وهذا بجانب الرسالة؛ لأنه يأتي برسالة للأمة، أما الموقف الثاني فهو النبوة، وهو تكريم لشخصه صلى الله عليه و سلم بصفته نبياً بأدبين كريمين: الأول: النهي عن رفع الصوت فوق صوت النبي حتى ولو كان بقراءة القرآن في مجلسه، أو بندائه ودعائه، بل يغض الصوت فلا يرفع صوته على صوت النبي، فلو كان يتحدث بينهم لا يكون صوت أحدهم أرفع من صوت رسول الله، وهذا غاية في الأدب؛ لأن من يرفع صوته عند غيره لا يكون مؤدياً كل واجبات الأدب بل يكون مخلاً بالأدب والاحترام، ونحن نعلم أو نرى المجالس ذات المستويات العالية فلا نجد إنساناً مهما كانت مكانته يرفع صوته على كبير المجلس، وهكذا يأمر الله سبحانه وتعالى الأمة أن تتأدب مع رسول الله في نوعية المحادثة وكيفيتها.

نوع الحديث الذي يطرق مع الرسول صلى الله عليه و سلم
ثم يأتي الأدب الثاني: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2] ، يظن بعض الناس أنهما شيءٌ واحد، ولكن الحقيقة أنهما أمران مختلفان، فالأول: في رفع الصوت من حيث هو، ولو كان بتلاوة القرآن، والثاني: نوعية الحديث ما هي؟ حديث أدبي، ديني، اقتصادي، عائلي، ما هو الموضوع؟ {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، أي: لا تجعلوا أحاديثكم مع رسول الله في الأمور التي تجعلونها بين أنفسكم في خلواتكم؛ لأن الإنسان مع صديقه وزميله قد يتحدث في أمور يستحي أن يجهر بها ويعلنها عند من هم أكبر منه سناً، أو منزلة.
فمثلاً: الأولاد فيما بينهم يتحدثون في أمور بيتهم أو شخصياتهم، فإذا دخل أبوهم غيروا مجرى الحديث، لأنهم لا يريدون أن يسمع الأب ذلك الحديث.
لو كان إنسان في دور الخطوبة والزواج، وجلس مع زملائه الذين سبقوه بالزواج يتحدثون عن آداب الزواج وكيفية المعاشرة وشيء من ذلك، فإذا دخل عليهم رجل كبير ولو لم يكن أب واحد منهم غيروا مجرى الحديث؛ لأن هذا الحديث ينبغي أن يكون سراً وليس جهراً.
إذاً فالمعنى: اجعلوا حديثكم مع رسول الله على مستوى عال من مكارم أخلاق، والتعلم في الدين، والاسترشاد في أمور الدنيا، وليس مما تنزلون بمستواه إلى ما لا تحبون أن يسمعه من هو أعلى منكم سناً أو مرتبة.
ويذكر علماء التفسير أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قادماً إلى بيت رسول الله، فسمع وهو على الباب قبل أن يستأذن امرأة تشتكي من زوجها فيما يكون من شأن الفراش بين الزوجين، فنادى خالد بن سعيد أبا بكر من عند الباب: يا أبا بكر! ألا تنهى هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه و سلم.
لأن الجهر بمثل ذلك لا يليق بالمستوى، مع أنه صلى الله عليه و سلم هو المشرع وهو المرجع في كل صغيرة وكبيرة، ولكن لكل مقام مقال.
أيضاً: المرأة التي سألت رسول الله: يا رسول الله! هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فغطت أم سلمة وجهها وقالت: فضحت النساء عند رسول الله؛ سلي بعض زوجاته تسأل لك رسول الله، أي: كيف تجاهرين بهذا مباشرة مع رسول الله؛ لأن الحديث سيأتي بصورة ذهنية عما ذكرته المرأة، فيتصور الإنسان بمخيلته امرأة في فراشها ترى ما يرى الرجل، وهذه الصورة يتأبّى عنها كل أديب وكل ذي خلق كريم، لكنها أدخلتها على ذهنه إجباراً عليه، ومن هنا قالت أم سلمة: فضحت النساء.
هل نهرها صلى الله عليه و سلم ؟ لا، لأن عليه البيان، فقال: (نعم، إن هي رأت الماء) .
هذا أمر تشريعي، أم سلمة استحت منه، ولكن لضرورة التشريع لابد منه، لكن إذا لم يكن الأمر مما يستدعي ذلك، وأرادوا الحديث فلا ينبغي هذا.
ومما جاء أيضاً: أن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان صلى الله عليه و سلم في حجرتي، وكان مضطجعاً وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له.
تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: (ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة) ، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: (إن عثمان رجل حيي وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته) .
انظروا إلى هذا الحال.
الرسول مع أبي بكر وعمر لكن لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته.
إذاً: الأقوال أو المجالس أو الأحاديث تتفاوت، ولكل مقام مقال.

لا يجوز التقدم على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
فالآية الثانية أدب الأمة مع رسول الله كنبي صلوات الله وسلامه عليه في شخصيته وذاته بعدم رفع الصوت، وبعدم الجهر له بالقول، وإذا كان الأمر كذلك في حياته صلوات الله وسلامه عليه؛ فإننا نأتي إلى التطبيق العملي، من إجماع المسلمين من أن الآيتين يجب تطبيقهما بعد مماته كما طبقتا في حياته صلى الله عليه و سلم.
فالآية الأولى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} [الحجرات:1] ، فلا يجوز التقدم عليه بشيء، والرسول صلى الله عليه و سلم قد قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما) ، كذلك لا ينبغي لأحد أن يتقدم على سنة رسول الله التي هي مسطَّرة بأيدي العلماء، وموجودة في سجل السنة المشهورة عند الجميع، فلكأنه صلى الله عليه و سلم حيٌ بين أظهرنا بوجود الكتاب والسنة.
وهنا أيضاً: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات:2] ، نهى عمر رضي الله تعالى عنه عن رفع الصوت في مسجد رسول الله حتى لا يقع من يرفع صوته في نطاق الآية الكريمة، وسَمِع رجلين يتحدثان في المسجد النبوي بصوت مرتفع، فقال: عليّ بهذين، فأُتي بهما ترعد فرائصهما، فنظر إليهما فقال: أغريبان أنتما، قالا: بلى، من أهل الطائف.
قال: لو كنتما من أهل هذه البلدة لأوجعتكما ضرباً، أترفعان أصواتكما عند رسول الله؟ وهذا بعد موته صلى الله عليه و سلم.
وكان التحديث سابقاً إذا كثر الطلاب وكان الصوت محدوداً أن يُوقف رجال على منتهى الصوت فيسمعون من المحدث ما يقول ويجهرون به ويسمعون من خلفهم، وهكذا ويتم نقل الحديث عن طريق المبلغين كما كان الحال في المبلِّغة المؤذن يرفع صوته بتكبيرات الإمام لكي يُسمع من في مؤخرة المسجد، فقيل لـ مالك: اتخذ مبلغين فإن الحلقة قد زادت، ومن في آخر الحلقة لا يسمع منك؟ فقال: أخشى أن أدخل في قوله سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، مع أن ابن عبد البر بوب في كتابه جامع بيان العلم وفضله: جواز رفع الصوت بالعلم، وذكر قضية إسباغ الوضوء، ونداؤه صلى الله عليه و سلم بأعلى صوته، وبعض الأدلة الأخرى.
الذي يهمنا أن هاتين الآيتين محكمتين إلى اليوم، ويجب تطبيقهما عملياً، سواء من جانب الرسالة أو من جانب النبوة.
ولهذا اتفق العلماء على أن من أراد أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يأتي إلى الحجرة الشريفة ويستقبل الوجه الكريم، وأن يسلم بصوت ليس فيه ارتفاع وليس همساً بحيث يسمع نفسه، أو يسمع من بجواره، ولا يرفع صوته على صوت رسول الله، ويقول مالك رحمه الله: من ظن أن وفاة رسول الله تنقص منه قدر شعرة فقد كفر بما أنزل على محمد لأن الله سبحانه يخبر عن الشهداء بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وما الشهداء جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلا حسنة من حسنات رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وأخبر صلى الله عليه و سلم أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء، وأن الأنبياء أحياء في قبورهم، ولكنهم في حياة برزخية لا يرتقي العقل إلى كيفيتها، ولا إلى إدراك كنهها، كما قال تعالى: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} [آل عمران:169] ، والذي عند ربنا ليس عندنا، ولا نستطيع أن نتصور أي شيء من ذلك.
وعليه فالآيتان محكمتان مطبقتان، ويجب الالتزام بهما إلى اليوم وإلى ما شاء الله، وبالله تعالى التوفيق.

حبوط الأعمال برفع الصوت عند النبي صلى الله عليه و سلم
قال الله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] ، العمل لا يحبطه إلا الردة عياذاً بالله، فمن ارتد عن الإسلام حبط عمله، كما قال الله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] ، وحاشاه أن يشرك، ولكن هذا خطاب للأمة في شخصيته.
فيقول العلماء: مجرد رفع الصوت عند رسول الله لا يحبط العمل، وقد كان ثابت بن قيس وهو خطيب رسول الله ثقيل السمع فكان يرفع صوته عند رسول الله، وله قصة وذلك أنه لما نزلت الآية دخل بيته وقال لزوجته: سمري علي الباب لقد كنت أرفع صوتي عند رسول الله، فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فافتقده رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد يومين، فسأل عنه، فقال جار له: أنا آتيك بخبره، فدخل عليه: يا ثابت أين أنت؟ قد افتقدك رسول الله، لماذا غبت عنه؟ قال: ألم تعلم ما أنزل الله في رفع الصوت عند رسول الله، وأنا رجل جهوري الصوت قد حبط عملي وأنا من أهل النار.
فعاد الرجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم وأخبره بالجواب، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (بل هو من أهل الجنة) .
فلما أخبره قال: اكسر الباب، وخرج وأتى إلى النبي صلى الله عليه و سلم واستشهد وكان من أهل الجنة.
فيقول العلماء: إحباط العمل بأن يرفع صوته وهو يرى أن لنفسه حقاً، أو يرى لنفسه ما يستوجب ذلك، ولربما خطر بباله شيءٌ في شخصية رسول الله بأن يرفع صوته عنده بلا مبالاة، فيكون عندها إحباط العمل.
(وأنتم لا تشعرون) : بذلك لأنه أمرٌ خفي ودقيق جداً، ولهذا يقول سبحانه: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات:2] ، بما عساه أن يخطر ببال الواحد منكم في حق رسول الله.
وقد سأل رجلٌ مالكاً رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من هذا المسجد -والرسول صلى الله عليه و سلم أحرم من ذي الحليفة- فقال له مالك: لا تفعل.
قال: لماذا؟ قال: أخشى عليك الفتنة.
قال: وأي فتنة، إنما هي خطوات أزيدها على ميقات رسول الله.
قال: أخشى أن يخطر في بالك أنك زدت خطوات لم يخطها رسول الله في إحرامه، فتظن أن إحرامك خير من إحرام رسول الله فتفتن في دينك.
وهكذا دقة الملاحظة أيها الإخوة، وبالله تعالى التوفيق.

ولنعلم أيها القارئ والمستمع أن رفع الصوت بقرب رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسجده، أو قريبا من حجرته الشريفة فيه مكروه لهذه الآية؛ لأن حرمة الرسول صلى الله عليه و سلم ميتا كحرمته حيا، وهذا عمر يطبق هذه القاعدة فيسمع يوما صوت اثنين مرتفعا في المسجد فدعاهما وقرعهما وسألهما من أين أنتما فقالا من الطائف فقال لهما لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم.
وقوله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} هذه علة لمنع رفع الصوت مخافة أن يغضب رسول الله فيغضب الله تعالى لغضبه فيعذب من لم يتأدب مع رسول الله، وكون العمل يبطل دال على أن من تعمد إساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يكفر بذلك ولذا يحبط عمله إذا العمل لا يحبط إلا بالشرك والكفر، لقول الله تعالى: {َئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ... } الآية.
ألا فلنحذر إساءة الأدب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا تكلمنا عنه وحدثنا بحديثه يجب أن تكون على غاية من الأدب والاحترام.

جزاء امتثال الأمر بغض الصوت
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد: فقد تقدم الكلام على الآيتين الكريمتين في أول السورة الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1] ، والتي تليها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] ، إلى آخر الآية.
وهنا يأتي قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات:3] .
في الآية التي قبلها (لا تَرْفَعُوا) ، وهذه الآية بيان لمفهوم المخالفة؛ لأن من لم يرفع صوته يغضه، وهذا في النسق القرآني الكريم يدل على الترابط بين الآي والآي.
ويقول علماء الأصول: إن النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، ويمثلون: إذا قلت لإنسان: اسكن، فقد أمرته بالسكون ويتضمن النهي عن الحركة، وإذا قلت له: صم، فإنك أمرته بالصوم ونهيته عن الأكل والشرب ومبطلات الصوم.
ففي الآية الأولى (لا تَرْفَعُوا) ، وعكس رفع الصوت غضه.
فالآية الكريمة الثالثة جاءت بنص مفهوم الآية التي قبلها، وبيّن سبحانه مكانة من تأدب بأدب القرآن ونتيجة هذا الامتثال، إذا قيل لهم: (لا ترفعوا أصواتكم) ؛ فحالاً يمتثلون ويغضون الأصوات، وبيّن نتيجة هذا الامتثال السريع فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ) .
ومجيء (إن) هنا راجعة لتبعيض الصوت، أو راجعة لتبعيض الغض منه، فقد يضطر الإنسان في حالة شديدة ويرفع صوته ليبلغ مسامع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وفي هذه الحالة لا يعاب عليه؛ لأنه لا يمكن أن يصل إلى ما يريد إلا بهذا النوع من رفع الصوت، فلا يكون في ذلك ارتكاب للمنهي عنه، أما في الأمور العادية فلا يرفع صوته بل يغض منه.
والغض من الشيء: التنقيص منه، كما في غض البصر، فهو كف البصر عن النظر إلى منتهاه، وإنما يغض بصره ويكفه عما لا يحل له.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} فهذه بشرى خير عظيمة لمن يتأدب مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فبغض صوته ولا يرفعه أمام رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الله يوسع قلبه ويشرحه ليتسع لتقوى الله عز وجل ويزيده فيعده بمغفرة ذنوبه والأجر العظيم ألا وهو الجنة دار السلام. اللهم اجعلنا من أهلها وارزقنا الأدب مع رسول الله اللهم آمين
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

حالات جواز رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم
وفي هذه الآية يبيِّن سبحانه وتعالى جزاء الذين امتثلوا بالأمر السابق (لا تَرْفَعُوا) ، أو بالنهي المتقدم وغضوا أصواتهم (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ) .
إذاً: الظرف هنا معين، بغير ما لو لم يكن عندهم رسول الله، وقد يضطره الرسول بنفسه، وقد يضطره غيره بحضرته صلى الله عليه و سلم لمصلحة عامة، كما جاء في غزوة حنين لما فوجئ المسلمون بنبل الأعداء فانصرفوا وولوا الأدبار فوقف صلى الله عليه و سلم في أرض المعركة وأعلن ونادى: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) .
وهذا في عرف العسكريين في غير شخصية رسول الله مخاطرة، ولكن هذا من الأدلة على ما كان صلى الله عليه و سلم يتمتع به من الشجاعة والقوة، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يقولون: نُرَى أنه أعطي قوة أربعين رجلاً منا.
والعادة العسكرية أنه حينما ينكشف الجند في المعركة فالقائد يخفي نفسه؛ لأنه المسئول عن سير المعركة، فإذا قُتل القائد ذهبت قوة الجيش واضطربت أموره، فالقائد يكون دائماً في مؤخرة الجيش أو في مكان آمن، ويخفي نفسه، وقد قيل: إن هتلر كان يدير المعارك في منطقة في الجو.
الذي يهمنا في هذه الحالة: أنه صلى الله عليه و سلم بعد قرار أصحابه وانكشافهم عنه، وقف وأعلن عن نفسه: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ، ثم قال للعباس: (نادي أصحاب السمرة) .
والسمرة: الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، أي: الذين بايعوا رسول الله على الموت في سبيل الله، وقيل: على أن لا يفروا، وقد رضي الله عنهم، {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] ، فنادى العباس بأعلى صوته، فنادى وجهر بالصوت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم للمصلحة.
ويقولون: إن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذا صاح في البرية ربما فزعت الوحوش من صوته، وإذا وقف في المدينة كانت له أرض بالغابة، وإذا أراد من عماله شيئاً جاء إلى سلع ونادى إلى عماله فبلغ صوته عماله في الغابة.
إذاً: قد يتطلب رفع الصوت في حضرة رسول الله صلى الله عليه و سلم للمصلحة.

امتحان الله للمؤمنين بأوامره لهم
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] .
الامتحان في اللغة: التخليص، ومنه: عرض الذهب على النار؛ لأن الذهب من حيث هو: ذهب معدن نفيس لا تحرقه النار، ولا تنقص من معدنه شيئاً، وإذا ما وضع على النار وأذيب ليست له فقاقيع كالزيت أو كالرصاص أو غيره، إنما يتموج متماسكاً كالزئبق.
والذهب من حيث هو: معدن نفيس لا يصلح للصياغة خالصاً، ولابد أن يضاف إليه معدن فيه صلابة، وهو النحاس، فيضاف مثلاً إلى الثمن ثلاثة قراريط من الأربعة والعشرين؛ حتى يمكن أن يصاغ فيصير صلباً صالحاً للاستعمال.
ونحن نسمع: عيار (21) ، وعيار (18) ، وعيار (20) ، فكيف يتوصلون لذلك؟ في دُور الدمغ أو الضرب والصك يأخذون من السبيكة التي وزنها -مثلاً- كيلو جرام، عشرة جرامات أو جرامين فيعرضونها لنار مرتفعة إلى درجة مائتين فهر نهايت، فتذيب الذهب وتحرق ما معه من معدن آخر ويتبخر ويتلاشى، ويبقى المعدن الصافي من الذهب، فيعيدون وزن الباقي، ويقارنون بينه وبين وزنه قبل الاحتراق -كم نقص وتبخر؟ - فيعرفون الجزء المضاف إلى الذهب، ويعرفون كم عيار هذا الموجود، فيكتبون عيار كذا، بنسبة ما فيه من معدن أجنبي عنه، ويقولون لك: عيار كذا، أو كذا.
بقدر ما فيه من ذهب خالص.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ} بمعنى خلّص، كما أن امتحان الذهب بالنار يخلصه من شوائب أي معدن آخر.
إذاً: قلوبهم أصبحت أوعية للتقوى، وليس في قلوبهم شيءٌ آخر قط غيرها، فطهرت ونقت، وتعطرت واستقبلت التقوى في تربة خصبة خالصة لا تشوبها شوائب أخرى.
بمثل هذا تكون التقوى في قلوبهم ذات فعالية قوية، بخلاف ما إذا كانوا خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهذا أمر متموج، وبخلاف ما إذا كان خالصاً صافياً إلى آخر أمره، فهؤلاء بمقتضى صفاء قلوبهم، وما خلصت فيه من التقوى، يكون العكس في ذلك هو غض الصوت عند رسول الله؛ لأن رفع الصوت عند إنسان ليس دلالة على احترامه وتوقيره، وغض الصوت عند إنسان دلالة على توقيره واحترامه، ولو لم يكن له سلطان عليه، ولكن إكراماً وإجلالاً له، كما قيل: أهابكِ إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فيهاب ويوقر لا لمخافة ولا لذلة، ولكن توقيراً ومحبة لمن يهابه ويوقره بغض الصوت عنده، وهذا هو غاية إكرامهم وتأدبهم ومحبتهم لرسول الله صلى الله عليه و سلم.

مغفرة الله لذنوب المؤمنين
قال الله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، إذا كان عظيم يستعظم شيئاً: أيكون هذا الشيء بنفسه عظيماً أم حقيراً؟ العظيم لا يستعظم الحقير.
لو أن الحقير استعظم شيئاً نقول: صحيح؛ لأنه أعظم منه؛ لأنه حقير، لكن عظيم يستعظم شيئاً معناه: أن ذلك الشيء هو في ذاته عظيم، فإذا كان المولى يقول: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، لا يقدر قدر هذا الأجر الذي استعظمه الله إلا الله، ويكفي في وصف الجنة قول النبي صلى الله عليه و سلم: (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) .
والمغفرة: الستر، ومنه المِغفر الذي يغطي به الفارس رأسه عند القتال، فالمغفرة وغفران الذنوب هو تغطيتها وسترها، والعفو إزالتها ومحوها نهائياً.
فهؤلاء الصنف من الناس الذين تأدبوا بأدب القرآن، وأصبحوا يغضون أصواتهم عند رسول الله لهم هذا الأجر العظيم.
وتعقيباً على ما تقدم عند السلام على رسول الله صلى الله عليه و سلم يجب على الإنسان أن يغض من صوته ولا يرفعه، وسيأتي بيان خلاف ذلك، وماذا قال الله تعالى فيمن يفعل ذلك.

الفائدة
لما أثنى الله على أصحاب رسوله في خاتمة سورة الفتح جعل سورة الحجرات في تكميل إيمانهم وتأديبهم، فبدأ بالأدب مع الله، ثم مع رسوله، ثم مع المؤمنين، سواء من حضر منهم، ومن غاب، ومن تلبَّس بفسق.

قال ابن عقيل: ما أخوفني أن أساكن معصية، فتكون سبباً في حبوط عملي وسقوط منزلة- إن كانت لي- عند الله تعالى، بعدما سمعت قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ وقد علق ابن مفلح قائلا: وهذا يجعل الفطن خائفاً وجلاً من الإقدام على المآثم، وخوفاً أن يكون تحتها من العقوبة ما يماثل هذه.

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إن كلمة واحدة من سوء الأدب مع الله أو مع رسوله –صلى الله عليه و سلم -، قد تحرق رصيد العبد الإيماني كله!

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ فيها أن الأدب مع أهل الفضل من العلماء والأتقياء والمربين والحكماء الذين وقفوا حياتهم لخدمة الدينتعليما ودعوة- يقتضي التوقير والاحترام، سواء في معاملتهم أو في طرق أبوابهم، ومراعاة أوقاتهم؛ لما في ذلك من مصلحة عامة للمسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق