الجمعة، 26 يونيو 2015

النداء الثامن: في وجوب قبول شرائع الإسلام كلها، وحرمة اتباع الشيطان



الآية (208) من سورة البقرة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
الشرح
إن الإسلام دين كامل ومتكامل؛ لذا هو لا يقبل الزيادة فيه، ولا يسمح بالنقص منه، إذ الزيادة فيه تبطله، والنقص منه يفسده وأقرب مثال يوضح هذه الحقيقة صلاة المغرب ثلاث ركعات فلو زيد فيها ركعة أو سجدة بطلت، كما أنه لو نقصت منها ركعة أو سجدة بطلت كذلك؛ بإجماع علماء الإسلام.
لذا فلو أن فردا من الناس قال: أنا أقبل الإسلام وأدخل فيه إلا أن ما حرمه من المطاعم والمشارب لا أحرمه، أو قال آخر: أنا أدخل في الإسلام إلا أن الصيام لا اعترف به لأنه يضعف من قوتي البدنية، أو قال أخر: أقبله إلا أنى لا أعترف بما قرره الإسلام من أن المرأة لها نصف ما للذكر في الميراث، أو قال آخر: أنا أقر بالإسلام وأدخل فيه إلا أنى لا اعترف بحكم قطع يد السارق، أو رجم الزاني المحصن. فهل يقبل الإسلام من هؤلاء؟ والجواب: لا يقبل بدا؛ وهم كافرون مخلدون في النار إن ما ماتوا على هذا الكفر.

ومثال آخر: لو أن مسلما أبا أو جدا قال: أنا لا أعترف بأن المسلم إذا دعا الأولياء أو استغاث بهم، أو تقرب إليهم بذبح أو نذر هو مشرك وأصر على ذلك فإنه كافر، وإن هو استغاث بغير الله ودعا غير الله وتقرب إلى غيره بذبح أو نذر فهو مشرك لا يقبل منه إيمان ولا إسلام، ولو صلى وصام وحج واعتمر وجاهد ورابط.
وهذا النداء الإلهي الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْم كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} هذا النداء هو الذي قرر حرمة النقص في الدين أو الزيادة فيه؛ إذ هذه الآية الكريمة نزلت في عبد الله بن سلام رضى الله عنه وكان حبرا من أحبار اليهود في المدينة، ودخل في الإسلام عن علم وقناعة، وبشر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة لرؤيا رآها. هذا العالم رأى في بداية إسلامه أن يبقى على تعظيم السبت. وأن يقرأ بشيء من التوراة في صلاته بحجة أن السبت فرضه الله تعالى تعظيما على اليهود، وأن التوراة كلام الله تعالى، وقبل أن يفعل إستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فنزلت هذه الآية تأمر المؤمن أن يدخل في الإسلام بكله، لا يبقى شيئا خارجا عنه حتى ولو كان تعظيم يوم السبت الذي كان تعظيمه شرعا وعبادة قبل الإسلام، أو تحريم لحوم الإبل وألبانها إذ كانت محرمة على اليهود، فرأى بعضهم ممن أسلموا أن يبقوا على ما كانوا عليه من تحريمها. فكانت هذه الآية الكريمة مانعة من كل ذلك ولا يسع المؤمن الحق إلا الدخول في الاستسلام الكامل لله تعالى؛ وذلك بقبول ما شرع وعدم التخير فيه بقبول بعض ورفض بعض. وبعد أن أمر الله عباده المؤمنين بالانقياد الكامل والطاعة التامة لله ورسوله في كل ما حواه الإسلام من الشرائع والأحكام العامة والخاصة، نهى المؤمنين عن اتباع خطوات الشيطان وهى ما يزينه ويحسنه للمرء بنوع من التحسين والتزيين حتى يقع فيه فينقطع عن الله تعالى فيهلك كما هلك الشيطان بكبره وعجبه بنفسه، فقال تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ، وعلل لتحريم عدم اتباع خطواته بقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي بين العداوة ظاهرها لا تخفى على أحد من ذوى العقول الراجحة والفهوم السليمة. وكيف وهو يزين اللواط، والزنا، والربا، وقتل النفس، والحسد، والكبر، والعجب، وعقوق الوالدين، وأذية المسلمين، إلى غير هذا من كبائر الذنوب والفواحش.
اعلم أيها القارئ أن هذا النداء اشتمل على بيان طريق النجاة وطريق الهلاك؛ فطريق النجاة هو الإسلام الكامل لله تعالى، باعتقاد ما أمر باعتقاده، وقول ما أمر بقوله، وفعل ما أمر بفعله، واجتناب ما أمر باجتنابه من ذلك كله اعتقادا أو قولا أو عملا، وطريق الهلاك هو اتباع خطوات الشيطان بتحسين القبيح، وتقبيح الحسن، فإذا أصبح العبد يحب ما يحب الشيطان، ويكره ما يكره فقد التحق به وأصبح من أوليائه، وخسر نفسه وأهله. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} . واذكر ما يحمله قول الله تعالى {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} من الوعيد الشديد؛ لكل من زلت قدمه فزاد في الإسلام أو نقص منه، أو بدل فيه. وما أصاب المسلمين من خراب ودمار، وذل وصغار لما تركوا واجبات أوجبها الله، وارتكبوا محرمات حرمها الله. كاف في الدلالة على ما تحمله الآية من وعيد شديد.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

التعريف
السَّلَم بفتحتين: السَّلف، والسلم أيضًا: الاستسلام، والسلم أيضًا: شجر من العضاه، واحدها: سلمة، والسلم: السلام، والسلم: الصلح، بفتح السين وكسرها، يذكَّر ويؤنث، والسلم: المسالِم، تقول: أنا سلم لمن سالمني، والسلام: الاستسلام، والسلام: الاسم من التسليم، والتسليم: بذل الرضا بالحُكم، وأسلم أمره إلى الله؛ أي: سلَّم، وأسلم: دخل في السَّلَم بفتحتين وهو الاستسلام، وأسلم من الإسلام، وأسلمه: خذله، واستسلم؛ أي: انقاد

تعريف الإسلام
الإسلام لغة: الانقيادُ والإذعان، أما في الشريعة فلإطلاقه حالتان:
الحالة الأولى: أن يطلقَ على انفراد غيرَ مقترن بذِكر الإيمان؛ فهو حينئذ يراد به الدِّينُ كله، أصوله وفروعه؛ من اعتقاداته وأقواله وأفعاله؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة: 208]؛ أي: في كافة شرائعه، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((إذا أسلم العبدُ فحسُن إسلامه، كتب الله له كلَّ حسنة كان أزلفها، ومُحِيت عنه كلُّ سيئة كان أزلفها))  ، فإن الانقياد ظاهرًا بدون إيمان لا يكون حُسنَ إسلام، بل هو من النفاق، فكيف تكتب له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟!

أما الحالة الثانية: أن يطلق مقترنًا بالاعتقاد؛ فهو حينئذ يراد به الأعمالُ والأقوال الظاهرة؛ كقوله تعالى: ﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾ [الحجرات: 14].

أركان الإسلام
الركن لغة: الجانب الأقوى، وهو بحسب ما يطلق عليه كركن البناء، وركن القوم، ونحو ذلك، ومن الأركان ما لا يتم البناء إلا به، ومنها ما لا يقوم بالكلية إلا به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُنِي الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)) ، فشبَّهه بالبنيان المركب على خمس دعائم.

وأركان الإسلام على قسمين: قولية وعملية:
 فالقولية: الشَّهادتان.

 والعملية باقي أركان الإسلام، وهي على ثلاثة أقسام: بدنية؛ وهي الصلاة والصوم، وماليَّة؛ وهي الزكاة، وبدنية ومالية؛ وهي الحج، وقول القلب وعمله شرط في ذلك

سبب النزول
نزلت الآية (208) في عبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود لما عظموا السبت وكرهوا الإبل بعد قبول الإسلام، قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يوم نعظمه، فدعنا فلنسبت فيه، وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً الآية. هذا ما رواه ابن جرير عن عكرمة.
وروى عطاء عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، فآمنوا بشرائعه وشرائع موسى، فعظموا السبت، وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

المناسبة
أوضح الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن الناس في الصلاح والفساد فريقان: فريق يفسد في الأرض ويخرب العامر، وفريق يبغي بعمله رضوان الله وطاعته، وأتبع ذلك هنا بأن شأن المؤمنين الاتفاق والاتحاد، لا التفرق والانقسام، فأمرهم بقوله: كونوا على ملة واحدة، واجتمعوا على الإسلام واثبتوا عليه.



التفسير
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فَإِنْ زَلَلْتُمْ، مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ، فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان. بهذا الوصف المحبب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم.. دعوة للذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة..
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم لله، في ذوات أنفسهم، وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور، ومن نية أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير، في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية.. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم، في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة.
وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره لله ربه، ونصاعة هذا التصور وبساطته..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل، ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك- كما كان في الوثنية والجاهلية- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر.. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئاً، وهو يعبد الله القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم، فقوته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من الهوى، وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام..

كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان.. فالله خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصداً، وغير متروك سدى، ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده، ومسخر له ما في الأرض جميعاً.
وهو كريم على الله، وهو خليفته في أرضه. والله معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير، الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة، وهي توحي إليه أن له أجراً حين يرويها من عطش، وحين يعينها على النماء، وحين يزيل من طريقها العقبات.. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحب والسلام.

والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط.. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة.. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفاه بميزان الله. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بد واقع. وما الله يريد ظلماً للعباد.

والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة، وأنه مخلوق ليعبد الله.. من شأنها- ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة..
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع، وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعداً إلى الله في كل نشاط وفي كل مجال.

وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله.. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون الله ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء.. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه. فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة الله مع هذا الكون كله. قانونه قانونه، ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام، ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء.. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله في طمأنينة وروح وسلام.

والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني، في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال.. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه، ولكنه يظل في جملته خيراً من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر، وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة- آصرة العقيدة- حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان..
هذا المجتمع الذي يسمع الله يقول له: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» «1» .. والذي يرى صورته في قول النبي الكريم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» «2» ..
هذا المجتمع الذي من آدابه: «وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها» «3» .. «وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ» «4» .. «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ- فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» «5» .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» «6» .. «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» «7» ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» «8» .. «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا» «9» .
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها» «10» .. و.. «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله» «11» ..

ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرج، ولا تتلفت فيه الأعين على العورات، ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديماً وحديثاً.. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة، والذي يسمع الله- سبحانه- يقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ «1» » .. «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «2» .. «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً، وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ» «3» .. «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ، أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ، أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ، أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ. وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «4» .. والذي يخاطب فيه نساء النبي- أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان: «يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى، وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ، وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»

وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها، ويأمن الزوج على زوجته، ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم، ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن، ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق الأعصاب.. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن، ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان! وأخيراً إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملاً ورزقاً، ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم، ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة، والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع، بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة، ولا يتسور على أحد بيته، ولا يتجسس على أحد فيه متجسس، ولا يذهب فيه دم هدراً والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهباً والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية، الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين لله ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم الله وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام الله رب العالمين وأحكم الحاكمين، في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها لله فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم..

1-   ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان، في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام، أو التي عرفته ثم تنكرت له، وارتدت إلى الجاهلية، تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان.. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري، وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.

وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد» . حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقداً والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان، مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت.. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان بالله؟
إنه شعب مهدد بالانقراض، فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب.. ثم الانتحار..
والحال كهذا في أمريكا.. والحال أشنع من هذا في روسيا..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة، ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا الله الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة، وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وأما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق الله وإما طريق الشيطان. وإما هدى الله وإما غواية الشيطان.. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحداً منها، أو يخلط واحدا منها بواحد.. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر.. إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان..
ليس هنالك حل وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج الله أو غواية الشيطان. والله يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم، تلك العداوة الواضحة البينة، التي لا ينساها إلا غافل.
والغفلة لا تكون مع الإيمان.

فقه الحياة أو الأحكام:
ويمكن أن نستبصر في إشراقة هذه الآية المباركة المفردات التالية :
1- إن المنهج الرباني يتسم بسمتين أساسيتين هما : التكامل والتفرد فهو نظراً لتكامله لا يفسح المجال لعناصر أخرى منافية لجوهره ، وأما تفرده عن المناهج الأخرى فإنه يمنحه نوعاً من الحساسية الخاصة التي تجعل أي انحراف عنه أو به عن مقاصده وغاياته بالغ الضرر على أدائه وإصلاحه للشأن الإنساني كله ، فالصفاء الكلي ليس مطلباً من مطالب الإيمان النظري ، ولكنه مطلب من مطالب توظيف المنهج ورسم دوائر حيويته وفاعليته ، وذلك نظراً للعلاقة الجدلية بين النظرية والتطبيق ، فسلامة الإيمان على مستوى الاعتقاد تتأثر إلى حد بعيد بالأخذ الجزئي للإسلام على مستوى التطبيق ! .
وقد حذّر القرآن الكريم النبي-صلى الله عليه وسلم-من مطاوعة المشركين في الإعراض عن بعض المنهج الرباني حين قال : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.

2- إن خصال الخير في هذا الدين كثيرة ، وعلى مقدار ما يأخذ المسلم منها يكون كمال إيمانه وإسلامه ، لكن بما أن العمر محدود والطاقات محدودة فإن على المسلم إذا أخذ بعُمُد الإسلام ، واهتدى بهديه العام ، وقبس من كمالاته ، أن يبحث عن المجال الحيوي المناسب لاستعداداته وظروفه وطاقاته كي يتخذ منه محراباً لتعبده وتقربه إلى الله تعالى ، حتى نحفظ للمجتمع الإسلامي توازنه ونسد ثغراته .
ومن هنا فإن عبادة طالب العلم محاولة النبوغ ، وإتقان التخصص حتى نحقق للأمة الاكتفاء الذاتي ولو في حده الأدنى على الصعيد العلمي والفني وعبادة علماء الشرع القيام بالتبليغ وإحياء السنن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتجديد وظائف التدين والتبصر في واقع الأمة ، وإن عبادة الحكام إقامة العدل ، ورعاية شؤون الأمة ، وحماية البيضة ، والتعفف عن الأموال العامة ونشر الدعوة ، وعبادة الجندي دوام التمرس بفنون القتال ، واستيعاب الأسلحة الجديدة واستشراف الشهادة ، والاستعداد الدائم للبذل والفداء ، وإن عبادة الأغنياء وذوي الجاه سد حاجة الفقراء ومساعدة الضعفاء على حل مشكلاتهم والوصول إلى حقوقهم ، والبذل في تشييد المرافق العامة ، وهكذا ...
وإن خروج كل واحد من هؤلاء عن مجاله الحيوي سيحرمه ، ويحرم الأمة من خير عظيم ، بل قد يؤدي إلى أضرار بالغة وخيمة العواقب ، فإذا صار هم العالم امتلاك المال بنية إعمار المساجد مثلاً تقلصت جهوده في ميدانه الحقيقي الذي ينبغي عليه المجاهدة فيه ، وإذا انشغل الحاكم بأعمال خيرية أو أداء النوافل عن واجباته الأخرى ، لم يكن ذلك موضع مدح ولا نفع ذي شأن للأمة المسلمة ، وهكذا ...
وهذا كله يحتاج إلى نوع من البصيرة النافذة بغية وضع الأمور في نصابها .

3- إن أنظمة الإسلام يكمل بعضها بعضاً ، كما يفعّل بعضها بعضاً ومن ثم فإن أي خلل أو ضعف في نظام من تلك الأنظمة يؤثر بالسلب على أداء باقيها ، وهذا يعود إلى ما ذكرناه آنفاً من ميزة (التكامل) التي يمتاز بها المنهج الرباني ، ونظراً لأهمية هذه المسألة وضعف الإدراك لها سنفيض القول فيها عسى أن نشعر أننا نقف على أرض صلبة.
وفي البداية فإن مبادئ الإسلام ومنظوماته المختلفة تنضوي تحت رؤية واحدة مما يجعل التخلي عن أي منها هدماً لجزء من الرؤية الكونية الإسلامية ويستوي حينئذ على الصعيد العملي على الأقل الجهل بذلك الجزء مع تجاهله أو جحده ، والنتيجة واحدة ، وهي غبشٌ في الرؤية على المستوى النظري ، واختلال في التوازنات العميقة على مستوى الشعور ، واضطراب أنظمة الحياة الإسلامية على مستوى الفعل والواقع المُعَاش ، وسنضرب العديد من الأمثلة لجلاء هذه الحقيقة .
أ- الزكاة جزء من النظام الاقتصادي الإسلامي ، وعدم القيام بهذه الشعيرة يؤدي إلى عدم كفاءة النظام الاقتصادي ، كما يؤدي إلى إلحاق الضرر بالنظام الاجتماعي والأخلاقي أيضاً ، فالمقدار المفروض من الزكاة في الأموال وعروض التجارة هو 2 . 5% ، وهذا القدر كاف لسد العديد من حاجات المجتمع الإسلامي على مقتضى الحكمة الإلهية البالغة ، لكن ذلك سيكون في الأحوال العادية والطبيعية وفي غير الأحوال الطارئة كما في حالات الزلازل والفيضانات ، وذلك أيضاً فيما إذا التزم أغنياء المسلمين بإخراجها ، وإذا استمر ذلك الالتزام حقبة مناسبة من الزمن ، فلو قدرنا أن 10% من الأغنياء أخرجوا الزكاة وأن التزامهم بأدائها في مجتمع ما لم يمض عليه سوى سنتين ، فإن الزكاة آنذاك لا تقوم بمهامها على الوجه المطلوب ، حيث إن الحالتين اللتين ذكرناهما تجعلان الفقر يتراكم ويتفاقم إلى الحد الذي لا تفي أموال الزكاة بالتخلص منه .
ثم إن نظام الزكاة يؤدي مهامه في ظل فعالية الأنظمة الأخرى ، فإذا كانت موارد القطر شحيحة جداً ، أو كان النظام السياسي فيه مختلاً ، وأدى ذلك إلى انتشار البطالة والعطالة عن العمل ، فإن نظام الزكاة بالتالي لا يوصلنا إلى الأهداف المنشودة منه .
وباعتبار الزكاة جزءاً من النظام الاقتصادي الإسلامي ، فإنها أيضاً لا تؤدي وظائفها إلا بفاعلية النظام الذي تنتمي إليه ، فمثلاً : (القرض الحسن) جزء من ذلك النظام ، وإعراض الدولة أو الشعب عنه يؤدي إلى نوع من تعطيل حركة المال وتداوله ، وبالتالي إلى ضعف حركة التنمية والاستثمار مما يفضي أيضاً إلى قلة فرص العمل وكثرة الفقراء والمعوزين .
ومرة أخرى فإن فاعلية نظام الزكاة ترتبط جزئياً بقيام الدولة بواجباتها من ضمان الحد الأدنى من المعيشة للفقير بالقدر الذي يحفظ كرامته ، ويجعله في وضع منتج مثمر ، فإذا عجزت الدولة عن ذلك أو قصرت فيه ، فإن آلية (نظام السوق) ستوجد شريحة واسعة من المحتاجين الذين لا يمكن أن تقوم بهم أموال الزكوات والنذور والكفارات ... وينفعل كل ذلك ويتأثر بقوة النظام القيمي وفاعليته ، فإذا كان نشطاً اندفع الناس إلى التطوع بكثير من الأعمال الخدمية واندفع كثير من الفقراء إلى العمل والحركة مع حسن التدبير والتعفف عن أموال الآخرين مما يخفف من غلواء الحاجة .

ب- الضبط الاجتماعي في الإسلام يقوم على ركنين أساسيين : الأسرة والمجتمع العام بما فيه من وسائل تثقيف وتعليم ورقابة ... وإن الخلل في أي من هذين الركنين سيؤدي إلى شيوع الخلل في أداء الركن الآخر . وواضح أن مهمة الأسرة أن تصقل الفرد من داخله بما تغرسه من قيم وآداب وبما تخطه في ذهنيته ومشاعره من خطوط عميقة ، كما أن مهمة المجتمع الأرحب القيام بالرقابة على تشجيع القيم الإيجابية وحماية أفراده من السقوط فيما يعتبر أعمالاً مشينة أو مُخلة .
والحالة النموذجية في هذا تتجلى في عموم الإيمان بالقيم والنظم ، وتوحد التربية الفردية مع معايير الضبط الاجتماعي على مقتضى ذلك الإيمان ، فإذا ما افترضنا الاختلاف بين القيم الأسرية والقيم التي يبثها الإعلام أو تلقنها المدرسة أو يشيعها الشارع ، فإن النتيجة هي تمزق شخصية الطفل بين مختلف هذه المؤثرات ، وحينئذ فإن التربية الأسرية تتعرض للخطر من قبل المجتمع الأوسع أو يأتي الخطر مما تواضع عليه من قبلها . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الطفل يُخفي في البيت ما تلقفه من المدرسة أو الشارع ، ويُخفي فيهما ما لُقنه في البيت ، والنتيجة هي الازدواجية والحيرة وانطفاء الفاعلية ، أي إجهاض عمل الجهات التربوية المختلفة ، وترك الناشئ لموجات الظروف .

ج- الحدود في الإسلام وسائل للردع ، وهي بمثابة العمل الجراحي الذي يأتي ترتيبه في التطبب متأخراً ، وتؤدي الحدود مهماتها في مجتمع تعمل فيه باقي الأنظمة بكفاءة من نحو الاستقرار والعدل وتوفر فرص العمل المناسبة وانعدام المغريات بالفاحشة وانسجام التربية البيتية مع معايير الضبط الاجتماعي وانتشار العلم ... وإذا ما فرضنا وقوع خلل فيما سبق أو بعضه ، فإن كفاءة الحدود في توفير الأمن للمجتمع سوف تتراجع على مقدار القصور الحاصل في الأنظمة الأخرى ، وهذا كله يجعل مسؤولية أمن المجتمع واستقراره مسؤولية عامة يتحملها كل فرد في المجتمع ، كما تتحملها الدولة على مقدار المكنة والتخصص .

4- إذا كانت أنظمة الإسلام متفردة في رؤيتها الكونية وفي منطلقاتها وأهدافها ، فإن مما يضر بتماسكها الداخلي إدخال العناصر البعيدة عن طبيعتها عليها ، وهذا ما يمكن أن نسميه بـ (التلفيق) ، وإن الثقافة الإسلامية تقبل من الجديد ما ينشط وظائفها ، أو يوظف مبادئها ، أو يملأ فراغات وهوامش أوجدتها خاصية المرونة فيها ، فإذا تجاوز الأمر ذلك إلى الجوهر والأنظمة الأساسية ، فإن النتيجة هي ضرب التوازنات العميقة لتلك الثقافة مما يجعلها تنكمش كما هو الكائن الحي حين يُهاجَم وتفرز نوعاً من العطالة الضرورية كيما تحافظ على وجودها وانسجامها .
وإن ثقافتنا الإسلامية تمر بمرحلة عصيبة لا سابق لها في تاريخها المديد حيث يمتلك زمام تثقيف الأمة أناس كثيرون يجهلون ثقافة الأمة ، بل إنهم رضعوا لبان الثقافة المعادية ، ولسنا هنا بصدد بيان ذلك ولا أسبابه ، لكن ما نشاهده اليوم من عمليات التلفيق والتهجين الثقافي كان حصاد مراحل الركود الفكري والحضاري بصورة عامة ، وإذا كان التجديد سنة من سنن الكائن الحي فإنه إذا لم يتوَل التجديد أهله تولاه غيرهم ، فالإنسان بطبعه لا يصبر على طعام واحد ، وهو يستهلك الشعارات والأفكار والنظم الصغرى ، فإذا لم نقم بإثراء ثقافتنا بالدراسات والخبرات وتجديدها وتحريرها من عوادي الانحراف والجمود والتقليد فعل ذلك من لا يُحسنه ، وصار الانسجام والتجديد عبارة عن سمات ظاهرة جوفاء ، أما الجوهر فيشوبه التناقض والتآكل الداخلي .
ولله الأمر من قبل ومن بعد .

هناك تعليق واحد:

  1. From the formula, we are able to} see the usual deviation 카지노사이트 is proportional to the sq. root of the number of rounds performed, whereas the anticipated loss is proportional to the number of rounds performed. As the number of rounds will increase, the anticipated loss will increase at a much quicker price. This is why it's impossible for a gambler to win in lengthy term|the lengthy run}. It is the excessive ratio of short-term normal deviation to anticipated loss that fools gamblers into considering that they will win. The calculation of the roulette home edge is a trivial train; for different games, this is not usually the case. Combinatorial analysis and/or computer simulation is necessary to complete the task.

    ردحذف